الامام المهدي (عجّل الله تعالي فرجه الشريف) مظهرالخلافه الالهيه و تجلي الحقائق الوجوديه

اشارة

سرشناسه:آل محمد، علي عبدالكريم

عنوان و نام پديدآور:الامام المهدي (عجّل الله تعالي فرجه الشريف) مظهرالخلافه الالهيه و تجلي الحقائق الوجوديه/ علي عبدالكريم آل محمد.

مشخصات نشر:بيروت: دارالخليج العربي، 1427 ق.= 2006 م.= 1385.

مشخصات ظاهري:234 ص.

يادداشت:عربي.

يادداشت: عنوان عطف: الامام المهدي عج.

يادداشت:كتابنامه: ص. 227 - 230 ؛ همچنين به صورت زيرنويس.

عنوان عطف:الامام المهدي عج.

موضوع:محمدبن حسن (عجّل الله تعالي فرجه الشريف)، امام دوازدهم، 255ق -

موضوع:محمدبن حسن (عجّل الله تعالي فرجه الشريف)، امام دوازدهم، 255ق. - -- احاديث

موضوع:مهدويت-- انتظار

امامت

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

ص: 5

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 6

الإهداء

إلي بشارة الأنبياء وسر الأوصياء ونور الأولياء ..

إلي باطن الأديان وتأويل القرآن ..

إلي النور المحمدي والحق العلوي والسر الفاطمي والثأر الحسيني إلي شبيه النبي ومثال الوصي وشريك القرآن ..

إلي خاتم الإمامة والولاية .. .

إلي صاحب العصر والزمان والأمر .. الإمام محمد بن الحسن العسكري، بن علي الهادي، بن محمد الجواد، بن علي الرضا، بن موسي الكاظم بن جعفر الصادق، بن محمد الباقر، بن علي السجّاد، بن الحسين الشهيد، بن علي بن أبي طالب عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه.

أقدم هذه السطور، لعلها تكون لي ذخراً ونفعاً «يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَي اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ »

خادمكم: علي آل محمد

ص: 7

ص: 8

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، وبه نستعين والصلاة والسلام علي الهادي الأمين، رحمة الله في العالمين، محمد صلي الله عليه وعلي آله الهداة الميامين الطيبين الطاهرين، مظاهر أمره ونهيه في أرضه وسماواته، وملكه وملكوته، وسلم تسليماً كثيراً.

أخي القارئ الكريم: هذا الكتاب الذي بين يديك، هو مجموعة من البحوث الخطابية، التي ألقيت في أيام شهر رمضان المبارك، في مسجد الإمام الحسن الزكي عليه السلام، بمدينة صفوي.

وقد نالت الإعجاب والرضي من قبل الجمهور الكريم، رجالاً ونساءً، وهذا من توفيق الله عزّ وجلّ، ومن أجل تعميم الفائدة وعدم ضياع هذا المجهود، دفعني بعض الإخوة الكرام، وشجعني أهل العلم الأعلام، علي ترتيب هذه المواضيع،وإعادة صياغتها وضبط أفكارها، وإخراجها علي شكل كتاب يوضع في متناول القرّاء، لتكون الفائدة منه أعم.

فأصغيت سمعي هذه الدعوات، واستجبت لإلحاح أصحاء تزايد يوماً بعد يوم، وقمت بمراجعة البحوث من جديد، وباشرن عادة صياغتها وتبويبها، ونزعت عنها ثوبها الخطابي، وألبستها ثوبا جديداً يتناسب و كونها كتاباً، وأضفت بعض العناوين والأفكار التي لم يسبق أن طرحتها علي المنبر.

ص: 9

أخي القارئ العزيز:

هذا البحث هو ثمرة عدة سنوات من التفكير والتأمل في حقيقة الأمام المهدي (عجّل الله تعالي فرجه الشريف)، ومعرفة خلافته، وأنا أذكر تماماً متي بدأت الرغبة لدي في هذا البحث، وذلك في سنة 1411ه، ولم أرغب يومئذ في طرح بحث مسطّح، أو موضوع تناوله الآخرون، فبقيت أجمع طوال خمسة عشر سنة من كل بحر قطرة، وأقطف من كل شجرة ثمرة، حتي اجتمعت لديّ المادة الصالحة للبحث، وتم إلقاؤه علي الجمهور في شهر رمضان من سنة 1425ه، وهذا التأخر عائد لعدم توفر المادة والأفكار من جهة، وعدم استساغتي لطرح بحث متكرر قد سمعه الجمهور من جهة أخري، وإن كان هذا بحد ذاته لا يخلو أيضاً من فائدة.

ولا يفوتني هنا أن أشكر كل من شجعني ودفعني لطباعة هذا البحث، وإخراجه علي شكل كتاب، من الإخوة الأعزاء وجمهوري الكريم، من أساتذة وجامعيين، وأخص بالشكر أخي العزيز فضيلة الشيخ زكي الحبيب، لمتابعته لهذا البحث ومناقشة بعض أفكاره، كما أشكر أيضاً سماحة السيد يوسف الشّبر، الذي مافتئ يلحُّ عليَّ بإصرار، والذي تكفّل هو بطباعته، فجزاه الله عني خير الجزاء.

وأرجو من القارئ العزيز، أن يقرأ هذا الكتاب من الباب إلي المحراب، وأن لا يكون حظه منه مجرد قراءة بعض العناوين، أو الاكتفاء بالتصفح السريع، وأنصحه بالقراءة المتأنية، وذلك لعدة أهداف:

أولاً- حتي يتذوّق ما فيه من أفكار، ويتلذّذ بما يحويه من ثمار .

ص: 10

ثانياً- كيما يتفضل بإرشادي إلي ما يمكن أن يري فيه من ثغرات و نواقص.

ثالثاً- لعل الفائدة الحقيقية المثمرة من الكتاب، تكمن في الجانب المهمل الذي لم يقرأ.

رابعاً- إذا ما استفاد القارئ من هذا الكتاب، فلعل ذلك يكون سبباً لحصولي علي الأجر والثواب من الله الكريم، وعلي رضي مولاي وسيدي صاحب الزمان (عجّل الله تعالي فرجه الشريف).

وأخيراً أرجو من إخوتي القراء الكرام المعذرة والصفح علي النواقص والثغرات، فالكمال لله وحده، ولمن هم مظاهر أسمائه وتحلّي صفاته، محمدٍ صلي الله عليه وآله وسلم، وآله الطاهرين.

والحمد لله رب العالمين.

ص: 11

ص: 12

المدخل

يصنف بعض المحققين والمصنفين حقيقة "المهدي" أو ما يصطلح علي تسميته عند البعض، ب "المصلح العالمي" في آخر الزمان، ضمن الحقائق المجمع علي ثبوتها، وذلك علي الصعيدين معاً، العالمي والوجودي.

إلا أنه لكل قاعدة شواذٌّ كما يقولون، وقد شذ عن هذه القاعدة بعض المنتسبين للفكر والعلم، ومثل هؤلاء الشواذ كمثل صبابة في الإناء أو ما دون ذلك، وكل الموجودات وعالم الإمكان فيما عدا هؤلاء الشواذ يؤمنون باليوم الموعود، الذي سيتم تحقيقه علي يد إنسانٍ متألَّهٍ في الصفات وربانيِّ في الأفعال، نبويِّ الأخلاق والسلوك.

وفي هذا الإيمان يجتمع الناس والملائكة علي حدِّ سواء، وينضم إليهم من هو أقل رتبة منهم مثل الحيوان، بل وحتي النبات والحجر الأصم أيضاً.

فالبشرية - بشكل عام- لا يجمعهم شيءٌ بعد الإيمان بالله إلا إيمانهم الثاني المتمثل بالإيمان في حقيقة هذا المصلح المهدوي، بل هناك من لا إيمان لهم بالله، ولا يعترف بالخالق أصلاً، ولكنه مع ذلك يأمل بإصلاح الأرض بعد فسادها، وعمارتها بعد خرابها في آخر المطاف، علي يد إنسان عظيم يختلف عن سائر الناس في أبعاده، وتجتمع عليه الإنسانية جمعاء، فيحل أزماتها ومشاكلها.

وهذا الأمر إن دلّ علي شيءٍ، فإنما يدل علي أن البشر لا يجمعهم -

ص: 13

علي عمق اختلافهم في أدياهم ومذاهبهم وأجناسهم وألسنتهم وألوانهم- إلا جامع واحد، ولا يربطهم سوي رابط واحد، وهو الحقيقة المهدوية، وتطلعهم إلي صلاح الأرض وعمارتها علي يد هذا النموذج الفذِّ الفريد، معجزة عالم الإمكان.

وبنو آدم - علي اختلاف آرائهم وتباين توجهاتهم ووجهات نظرهم

وعقائدهم وأديانهم، وتعدد مشاربهم-، لم يمنعهم ذلك كله من الاتفاق علي وجود هذه الحقيقة بما هي.

والمتتبع لحقيقة المهدي يجد أنها تأبي أن ينفرد بها دينٌ من الأديان، أو مذهبٌ من المذاهب، أو طائفة من الطوائف، أو حتي نوعٌ من الأنواع أو جنسٌ من الأجناس، فلقد تعالت شمس هذه الحقيقة عن إمكانية التأطير، وتسامت لتصبح عصيةً علي التحيّز، ولذا فإنها لم تُحتَسَب علي دين محدد أو مذهب معين، فكل الأديان والمذاهب والطوائف تنادي بهذه الحقيقة، ولو أن الأمر لم يسلم من الاختلاف في مشخصاتها ومصاديقها، مع اتفاقهم علي أصل وجوهر هذه الحقيقة، وهذا هو الأهم، أما الاختلاف في المشخصات والمواصفات، النابع من الاعتبارات الدينية والمذهبية، فهو اختلاف في الفرع وليس في الأصل،ولم يمنع البشرية من أن تتفق - ولو بشكل محمل - علي حقيقة هذا المصلح العالمي، الذي سيخرج في آخر الزمان، ويصلح كل مفردات هذا الوجود الإمكاني، من الزمان والمكان والإنسان والأكوان، ويوجهه إلي حقائقه، ويسوقه إلي خفايا أسراره ودقائقه، ويسير به نحو حقائقه العليا، ويعود به صعوداً (في قوس الصعود)

ص: 14

إلي عالم الملكوت.

عندها تُري الحقائق عياناً، ويغدو الغيب شهوداً، والخفاء ظهوراً، وهذا كله سوف يتضح لنا من خلال ثنايا هذا البحث، وطيات هذا الكتاب، بتوفيق من الله سبحانه وتعالي.

وألفت نظر القارئ الكريم إلي نقطة مهمة، وهي أنني هنا لا أتكلم عن المصداق الذي يجسد هذه الحقيقة، وذلك لأننا نحتاج أولاً إلي إثبات الحقيقة ، وهل هي ثابتة بالفعل أم لا، بغض النظر عمن يكون مصداقها، فإذا ما ثبتت لدينا تلك الحقيقة نتحدث بعدئذ عن المصداق الأتم والأكمل والأظهر والأقدس لها، وكما يقولون: "العرش ثم النقش"، أي ثَبَت عرش الحقيقة، ثم انقش المصداق عليها، وتطرق بعد ذلك إلي هوية هذا المرتجي والمؤمَّل من قبل عالم الإمكان، من أقل مراتبه إلي أعلاها وأسماها.

ص: 15

ص: 16

الفصل الأول: الإمامة

اشارة

ص: 17

ص: 18

أسئلة مهمة

اشارة

يعتبر موضوع الإمامة من أخطر المواضيع، وأشدها حساسية بين الفرق الإسلامية، ولذلك قيل: " ما سُل سيفٌ في الإسلام، كما سُلَّ في الإمامة".

إذاً نحن أمام حقيقة اضطربت فيها الأفكار، وتباينت حولها الآراء، وحارت فيها العقول والأفهام، ولذلك فنحن منذ البداية، وتأصيلاً لهذا المبحث، نطرح هذه الأسئلة المهمة:

أولاً- من هو الإمام؟.

ثانياً - ما هي الإمامة؟.

ثالثاً- هل الإمامة رئاسة دينية أم دنيوية؟.

رابعاً - ما هي شؤون الإمام ومرتبة الإمامة؟.

أولاً- من هو الإمام؟

الإمام: " كل من ائتم به قوم، كانوا علي الصراط المستقيم أو كانوا ضالين"(1)، و " إمام القوم: معناه هو المتقدم لهم، ويكون الإمام رئيساً كقولك: إمام المسلمين(2).

وعلي هذا الأساس يكون التعريف عادياً ومبسطاً، ولا يُشَتمُّ من

ص: 19


1- لسان العرب ج12 ص 28.
2- المصدر السابق ص 30.

كلماته ومفرداته رائحة القداسة لمرتبة الإمامة، ولا تُستنشَق منه نسمات الروحانية ونفحات الملكوت، وكما يقول الشهيد المطهّري: "لا تنطوي كلمة الإمام في حد ذاتها علي مفهوم مقدس، فالإمام هو المؤتم به، أي المقتدي والمتّبع(1).

إذاً من خلال هذه التعريفات، يكون الإمام هو: المتقدم، الرئيس، المؤتم به، المتَّبع.

ثانياً- ما هي الإمامة؟

الإمامة: هي الخلافة، أو الزعامة الدينية والدنيوية .

ثالثاً- هل الإمامة رئاسة دينية فقط؟ أم دنيوية فقط؟ أم كلاهما

هنا وقع الخلاف والاختلاف معاً حول هذه المسألة، فهناك من يقول أنها رئاسة دينية، وهناك من يقول أنها رئاسة دنيوية، وهناك من قال أنها تجمع بين الرئاستين.

وسوف تتضح لنا الصورة أكثر مع التقسيم الآتي.

رابعاً - ما هي شؤون الإمام ومرتبة الإمامة؟

اشارة

وهذا السؤال أيضاً اختلفت حوله الأجوبة، وذلك تِبعاً لاختلاف المدارس والنظريات حول معني الإمامة ومدلولها، وحدودها وحقيقتها، وسوف نشير لهذه النظريات والمدارس في البحوث التالية بالتفصيل.

من خلال التتبع لآراء المدارس والنظريات المختلفة، يجد الباحث بين

ص: 20


1- الإمامة - مطهري ص 38.

هذه المدارس، بوناً شاسعاً وتبايناً كبيراً، واختلافاً عظيماً، حول فهم كل مدرسة للإمامة، ويمكننا أن نقسم الإمامة علي حسب اختلاف هذه النظريات والآراء إلي أقسام ثلاثة:

أولاً- الإمامة السياسية.

ثانياً - الإمامة الدينية.

ثالثاً - الإمامة التكوينية، أو الوجودية.

كما يمكننا أن نصنف هذه الآراء والنظريات والمدارس، تحت هذا

التقسيم: .

1- الإمامة الحسية (الظاهرية).

2- الإمامة الملكوتية (الغيبية الخفية).

ولكي نتلمّس مواطن التباين والاختلاف بين هذه الأقسام، لا بد لنا

أن نتعرّف علي حدود كل نوع من أنواع الإمامة.

ص: 21

الإمامة السياسية

وهذه الإمامة لها بعد دنيوي- أي في الحياة الدنيا، فأصحاب هذه النظرية لا يرون للإمامة إلا وجهها الدنيوي، المتمثل في البعد السياسي ، أي الزعامة السياسية المتمثلة في إقامة الدولة وتأسيس الحكومة، وما يتبعها من تنصيب الولاة والقضاة، وتدبير أمور الناس المعاشية والمدنية، وتجهيز الجيوش وقيادتها في الحروب للفتوحات والغزوات.

والذي لا يتمتع بهذه الشؤون والصلاحيات ليس بإمام، ولذلك فإن هذا الرأي يعطي الحكام مرتبة الإمامة، و كلمة هؤلاء تقول: "نحن مع من غلب"، ويستدلون علي وجوب طاعتهم بقوله تعالي:«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ »(1)، وولي الأمر عندهم هو الحاكم، وبموجب فهمهم للآية الكريمة، فقد اعتبروا أنه واجب الطاعة.

وإن أهم مظاهر هذه الإمامة "السياسية" ما يلي:

- الحكم.

- القضاء.

- تنظيم الجيوش.

- القيادة المدنية والعسكرية.

ص: 22


1- سورة النساء أية 59.
الإمامة الدينية

ويعتبر أصحاب هذه النظرية أن الإمامة منصب ديني لا دنيوي فقط، وبذلك تكون الإمامة طريقاً لمعرفة الدين وتطبيق الشريعة.

وقد انقسم أصحاب هذه النظرية إلي فريقين:

الأول: يري أن الإمامة شأن من شؤون الدين فقط، ولا علاقة لها بالسياسة والحكومة، فهي - أي الإمامة - منصب ديني بحت لا صلة له بالدنيا.

والثاني: يري أن الإمامة تحوي المقامين معاً، السياسي والديني، الدنيا والآخرة، وبحسب هذا الفريق تكون الإمامة زعامة دينية دنيوية.

ومن أهم مظاهر الإمامة الدينية:

1- الهداية والإرشاد.

2- الحفاظ علي الدين والشريعة، من التحريف والتزييف، والزيادة

والنقصان.

3- إيصال الدين إلي الشعوب والأجيال.

4- تطبيق الشريعة و تحسيد الدين بالقول والعمل والفعل والسلوك .

ص: 23

الإمامة التكوينية
اشارة

وبتعبير آخر: الإمامة الوجودية.

وأصحاب هذا الرأي يقولون: يجب أن تكون نظرتنا إلي الإمامة علي أنها حقيقة أكبر من كونها سياسية دينية، وأعمق من كونها دينية فقط، فلا ينبغي أن نحصرها في السياسة والحكم، كما لا يجوز أن نختزلها في تطبيق الدين والشريعة والأحكام العبادية، بل هي في الحقيقة أعمق وأكبر من هذا الشأن الظاهري المحسوس بكثير.

إن الإمامة في هذه النظرية شأن رفيع، لا يمكن للبشر أبداً أن يصيبوا كنهها ومعناها الحقيقي بعقولهم، وإنما بتعليم من الله أو رسوله أو خلفائه، وكل من يسطّح حقيقة الإمامة، هو في الواقع جاهل بها وبمترلتها ومراتبها وشؤونها وعظمتها وقدرها، وقد ورد في هذا الشأن عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام، ردُّ منه علي بعض أصحابه يشتكون إليه مما نالهم من رجل اسمه سالم، قال الإمام عليه السلام: " إن منزلة الإمام أعظم مما يذهب إليه سالم والناس أجمعون"(1).

ومن هذا المنطلق، يري هؤلاء أن من شؤون و أبعاد الإمامة الجانب التكوين، وهذا الجانب التكويني، ناظر إلي الوجود بكل أبعاده، وجميع مراتبه و درجاته، من العالم العلوي (وما يضم من عالم المجردات والأفلاك

ص: 24


1- بحار الأنوار ج23 ص 41.

والأملاك والغيب والملكوت)، والعالم السفلي (وما يحويه من عالم الحس والطبيعة والشهود والملك والظهور).

ومن هنا يصبح العالم كله - العالم الإمكاني - قائماً تحت مظلة الإمام ووجوده المقدس، وهذا ما يعبَّر عنه بأن: (كل الموجودات الإمكانية هي فيضٌ من الإنسان الكامل، والإنسان الكامل هو الذي وصل إلي أعلي وأكمل ومنتهي درجات القرب الإلهي والمقامات العالية).

وقبل التعرض إلي مظاهر هذه الإمامة، نشير إلي نقطة مهمة، وهي:

الفوارق بين الإمامة الحسية والإمامة المعنوية

هنالك في الحقيقة فوارق جوهرية بين الإمامتين الحسية والمعنوية:

أولاً- الإمامة الحسية ليس لها ارتباط بالسماء، ولا يدعي أحد ممن يتبني هذه النظرية بذلك، علي خلاف الإمامة المعنوية، التي هي بنص من السماء، فهي علي اتصال و ارتباط مع السماء.

قيل: تناظر علي بن الحسين عليه السلام وأحد الناس في مسائل من الفقه، فقال عليه السلام: يا هذا، إنك لو صرتَ إلي منازلنا لأريناك آثار جبرائيل في رحالنا، أفيكون أحد أعلم بالسنّة منا؟(1).

ومفاد كلام الإمام عليه السلام، أنهم مرتبطون بالسماء، ولم ينقطع هذا الارتباط بعد وفاة النبي صلي الله عليه وآله وسلم.

ثانياً - الإمامة الحسية يمكن انتزاعها وعزل الإمام، علي العكس من الإمامة المعنوية، التي لا يمكن انتزاعها من الإمام المعيَّن والمنصب من قبل

ص: 25


1- بحار الأنوار ج 78 ص 161.

الله ورسوله، ولو اجتمع علي ذلك الإنس والجن.

ثالثاً- الإمامة الحسية لا يشترط أصحابها أي شرط في الإمام سوي القهر والغلبة، وشعارهم دوماً: "نحن مع من غلب"، أما الإمامة المعنوية فمن أهم شروطها: النص والعصمة، وعدم الشرك- ولو طرفة عين، والأعلمية والأفضلية.

رابعاً - الإمامة المعنوية لا يمكن التنازل عنها، بعكس الإمامة الحسية.

خامساً- الإمامة المعنوية تضم وتشمل الحسية، أما الحسية فليست كذلك.

وبذلك يتضح لنا، أن مسؤولية الحكم بالنسبة إلي الإمام، هي من المهمات التي لا قيمة لها بحد ذاتها، وإنما تستمد قيمتها من دورها في تحقيق العدل وتطبيق الشريعة، ويدل علي ذلك، قول أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام لابن عباس: ما قيمة هذا النعل؟ فقال ابن عباس: لا قيمة لها، قال عليه السلام: والله لهي أحب إلي من إمرتكم، إلا أن أقيم حقاً وأدفع باطلاً.

يقول الإمام الخميني قدس سره: (لا يلزم من إثبات الولاية والحكومة للإمام عليه السلام، ألا يكون لديه مقام معنوي، إذ للإمام مقامات معنوية مستقلة عن وظيفة الحكومة، وهي مقام الخلافة الكلية الإلهية)(1).

ويقول قدس سره في موضع آخر: ( تولي أمر الحكومة في حد ذاته ليس مرتبة ومقاماً، وإنما مجرد وسيلة للقيام بوظيفة الإحكام، وإقامة نظام

ص: 26


1- الحكومة الإسلامية ص 93.

الإسلام العادل)(1).

ويقول في موضع ثالث: (بعض الناس يتوهمون أن الرئاسة والحكومة بحد ذاتها شأن و مرتبة بالنسبة للأئمة، بنحو لو ثبتت لغيرهم فكأنما الدنيا قد خرجت ...)(2).

ويقول السيد محمد حسن القزوين رحمه الله : ( وليست الإمامة التي هي الخلافة الإلهية علي البرية - من نوع الملوكية، والسلطنة الظاهرية، ولا هي مستلزمة لها دائماً، فلا يكون من شؤونها القهر والغلبة والشوكة ..

نعم ربما تجتمع الرئاسة الإلهية مع الرئاسة الظاهرية الدنيوية، والسلطة الفعلية، كما في موسي و يوشع بن نون و داوود وسليمان، ورسول الله - صلي الله عليه و آله وعليهم أجمعين - بعد الهجرة ، وقد تفترق إحدي الرئاستين عن الأخري)(3).

ويقول الأستاذ السيد كمال الحيدري: ( إن البعد السياسي والدور السياسي هما أمر اعتباري، فأن يكون الشخص رئيساً وأن يكون حاكماً هذا أمر اعتباري، فقد يكون في هذا اليوم رئيساً وحاكماً، وقد لا يكون في غيره، كما هو الأمر في المُلكية، فأنت تملك اليوم هذا الكتاب، ولكن ارتباطك به ارتباط اعتباري، بدليل أنك قد تبيعه بعد ساعة، فيغدو هذا الكتاب الذي كان لك لغيرك، ومن ثم لا توجد بينك وبين هذا الكتاب

ص: 27


1- الحكومة الإسلامية ص 94.
2- المصدر السابق ص 95.
3- الإمامة الكبري والخلافة العظمي ج2 ص 14-15.

علقة تكوينية كتلك التي بينك وبين عينك، هل يمكنك أن تنقل ملكية الباصرة - لا العين - إلي غيرك؟ كلا، لا يمكنك، عندنا إذن علاقة نسميها "علاقةتكوينية" و "حيثية تكوينية"، وتوجد هناك علاقة أو حيثية اعتبارية قابلة للنقل والانتقال بحسب القوانين)(1).

وهذا ما أشرنا إليه في الفوارق الجوهرية بين الإمامة الحسية والإمامة المعنوية، وذلك في النقطتين الثانية والرابعة، المتعلقتين بإمكان الانتزاع والانتقال في الإمامة الحسية، وعدم إمكان ذلك في الإمامة المعنوية.

ومما يؤيد هذه النظرية في الإمامة "الإمامة التكوينية"، بعض الروايات المروية عن أئمة أهل البيت عليهم السلام، ومنها قول الإمام الصادق عليه السلام: (إن لله اثني عشر ألف عالَم، كل عالَمٍ أكبر من سبع سماوات وسبع أرضين، ما يري عالَمٌ منهم أن الله عالَماً غيره، وأنا الحجة عليهم)(2).

فهذه الرواية وغيرها تبين لنا سعة السلطنة واتساع الحاكمية للإمام أو الولي والحجة الإلهي.

فالذي يحصر الإمامة في السياسة والحكم الدنيوي والظاهري، أو في تطبيق الشريعة والدين فقط، ويري أن ليس وراء ذلك شيء أو مقام آخر، فهذا فهمه قاصر أو اطّلاعه محدود، قال الإمام الصادق عليه السلام: (إن الله مدينتين إحداهما بالمشرق والأخري بالمغرب، عليهما سور من حديد له سبعون ألف باب، من الباب إلي الباب فرسخ، علي كل باب سبعون

ص: 28


1- بحث حول الإمامة ص 35.
2- هدي العقول ج3 ص 77.

مصراعاً من الذهب الأحمر، أهلهما يتكلمون بسبعين ألف لغة، كل لغة بخلاف الأخري، وأنا والله أعرف لغاتهم، وأنا الحجة عليهم)(1).

وفي رواية أخري عنه عليه السلام أنه قال: (إن الله مدينتين إحداهما : بالمشرق والأخري بالمغرب، يقال لهما "جابلصا" و "جابلقا"، طول كل مدينة منهما اثنا عشر ألف فرسخ، في كل فرسخ باب، يدخل في كل يوم من كل باب سبعون ألفاً، ويخرج منه مثل ذلك، ولا يعودون إلا يوم القيامة، لا يعلمون أن الله خلق آدم ولا إبليس ولا شمساً ولا قمراً، هم والله أطوع لنا منكم، يأتوننا بالفاكهة في غير أوانها، موكلون بلعن فرعون وهامان وقارون)(2).

وعن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: (أتي الحسينَ عليه السلام أناسٌ فقالوا له: يا أبا عبد الله، حدثنا بفضلكم الذي جعل الله لكم، فقال: إنكم لا تحتملونه ولا تطيقونه، فقالوا: بلي، قال: إن كنتم صادقين فليتنحَّ منكم اثنان وأُحدِّثُ واحداً، فإن احتمله حدثتكم، فتنحَّ اثنان وحدَّث واحداً، فقام طائر العقل فمرَّ علي وجهه وذهب، فكلمه صاحباه فلم يردَّ عليهما جواباً)(3).

ومن يريد المزيد من هذه الروايات، فليراجع المصادر الحديثية التي تتناول هذا الباب، وقد لخصوا كل هذا في قولهم عليهم السلام: (إن أمرنا

ص: 29


1- المهدي المنتظر ص 474.
2- المصدر السابق ص 475.
3- حقيقة الإمامة ص 59 - الكبريت الأحمر ج2 ص35.

صعبٌ مستصعب)، فمعرفة كنه الإمام وحقيقته الذاتية بما هي في الحقيقة وواقع الأمر، لا يحتمله إلا ملَكٌ مقرَّب، أو نبيٌّ مرسل، أو مؤمنٌ امتحن الله قلبه للإيمان(1).

الإمام المبين: ( هو محل الإحصاء المشار إليه بقوله تعالي: « وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ »، فتارة يراد به كلام الله تعالي: « وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ »، وتارة يراد به الإنسان الكامل، إذ كانت الحقائق كلها .. إلهيُّها و كونيُّها محصاةٌ فيه)(2).

ومما أعجبني في هذا المجال، شرح العلامة المحقق الشيخ أحمد بن الشيخ صالح آل طوق القطيفي - المتوفي بعد سنة 1245ه- لحديث رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم، يقول فيه: (إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي، الثقل الأكبر كتاب الله، والأصغر أهل بيتي، وإن اللطيف الخبير نبّأني أنهما لن يفترقا حتي يردا عليَّ الحوض).

يقول في شرحه:

(الأول: ما معين أفما ثقلان؟ فنقول: الثقل في اللغة يطلق بإطلاقات كثيرة، منها خزائن الأرض والسماوات وكنوزهما الخفية، وكل عظيم كبير الشأن ثقل، وكل شيءٍ نفيسٍ مصونٍ ثقل، وكل خطير نفيسٍ ثقل، وكل ما لا تدرك حقيقته للخلق من الخلق ثقل، وكل ما شق تحمله ثقل، وكل ثقيل الوزن عظيم القدر ثقل، وكل واحد من هذه المعاني يناسب

ص: 30


1- رسائل آل طوق القطيفي ج 3 ص 167.
2- لطائف الأعلام ص 116.

الحديث الشريف بوجه، وبالجملة لما كان الكتاب والعترة أعظم خزانة خزنت في السماوات والأرض، لأنهما غاية الموجودات، ولما اشتملا عليه من خزائن أسرار الله، وعلم الأول والآخر والظاهر والباطن، والغيب والشهادة والمبدأ والمعاد، كانا أعظم الخلق وأكبره شأناً، وقد صِين سرُّهما وعلانيتهما عن جميع نقائص الخلق، وعن أن يدرك حقيقتهما إلا الله ورسوله.

الثاني - كيف يكون الكتاب هو الثقل الأكبر والعترة هم الثقل الأصغر؟.

والجواب من وجوه:

أحدها: أن الكتاب من حيث هو مضاف الله عز اسمه، أكبر ثقلاً من العترة من حيث هي مضافة لرسوله صلي الله عليه و آله وسلم، فالإضافة للمعبود أكبر من الإضافة للعابد.

ثانيها: قوله " الثقلين الأصغر والأكبر".

المعني: عقلهم، واللفظ: قرآنهم، فعقلهم قرآن و قرآنهم عقل، فلما تنزّل إلي عالم الشهادة كان الإمام شريك القرآن، فإن قسمت هذه الحجة الظاهرة إلي عقل وجسم، كان العقل الذي هو القرآن الثقل الأكبر، والجسم الحامل للقرآن الثقل الأصغر، فالعقل أكبر من الجسم وأفضل، والعاقل أكبر من العقل وأفضل، ومن حيث أن القرآن قسيم عقلهم، وأن جميع علومهم مستندة إليه، فمن حيث ذلك حُسُن أن يقال: هو الثقل الأكبر، مع أنه بالنسبة إلي أجسامهم عند الانقسام كذلك، ومن

ص: 31

حيث أنهم الكتاب الناطق والعاقلون، فهم مجموع القسمين أكبر وأفضل، مع أن الحقيقة الجامعة للكل حقيقتهم)(1).

ولله در هذا العلامة لتحقيقه وتحليله، فهذا من أروع ما قيل في تحليل هذه الرواية، التي تشير إلي أن القرآن - حقائق القرآن، وأهل البيت - حقائق أهل البيت عليهم السلام-، من سنخٍ واحد، ونور واحد ومنبع واحد، لذلك لا يمكن أن يكون بينهما انفكاك وافتراق، وإنّ فكَّ أحدهما عن الآخر يعني الموت لهذه الحقيقة.

ومن الممكن أن يشكك البعض، كيف يكون أئمة أهل البيت هم عقل القرآن؟ والجواب: كما أن القرآن هو خُلُقُ الرسول الأعظم صلي الله عليه وآله وسلم، كما قيل في وصفه: (كان خلقه القرآن)، والأخلاق هي إشارة إلي حقيقة عقل الإنسان العملي، جاز أيضاً أن يكون القرآن هو عقل وروح أهل البيت عليهم السلام بنفس المعني.

وهناك أيضاً إشارة خفيّة إلي عصمة أهل البيت عليهم السلام، وهذا ما يشترطه أتباع أهل البيت فيمن يتصدّي للإمامة، وعلي رأس الشروط النص من الله أو رسوله، وأن يكون الإمام معصوماً، وذلك باعتبار أن الإمام من مهامّه الهداية وحفظ الدين وإيصاله إلي الآخرين، والتطبيق والتجسيد لهذا الدين والشريعة، فمن هذا المنطلق نقول: إن هذه المهام الدينية لا يمكن أن يقوم بها إلا الإمام المعصوم، والعصمة مرتبة لا يمكن تحصيلها لأي شخص كان، وهي خفيّة لا يمكن معرفتها من عموم الناس،

ص: 32


1- رسائل آل طوق القطيفي ج3 ص 435-439.

باعتبار أنها من المراتب الباطنية والغيبية.

ما هي العصمة؟

العصمة هي كيفية نفسانية ومرتبة خفية باطنية، لا يعلمها إلا الله تعالي شأنه، ومن ألهمه الله تعالي علم ذلك(1)، ولإيضاح هذا المطلب يقول الأستاذ السيد كمال الحيدري: (عندما نأتي إلي حقيقة العصمة، فالملاحظ أن القرآن الكريم، والمرويات الواردة عن النبي صلي الله عليه وآله وسلم، وأئمة أهل البيت عليهم السلام، لا تفسر حقيقة العصمة ببعد عملي، أي لا تبين حقيقة العصمة علي أساس البعد العملي، بل علي أساس البعد العلمي الاعتقادي، ومن ناحيةتبين أن هذا البعد العلمي هو سنخ علم لا ينفك عنه الأثر والعمل المترتب عليه)(2).

ص: 33


1- مكيال المكارم ج 1 ص 59.
2- بحث حول الإمامة ص 195.
مظاهر الإمامة الملكوتية المعنوية
اشارة

بعد أن اطلعنا علي مظاهر الإمامة السياسية، التي هي -كما قلنا۔ الحكومة والحكم وتنصيب القضاة والقادة وقادة الجيوش، واطلعنا علي مظاهر الإمامة الدينية، وقلنا: هي الهداية وحفظ الدين وإيصاله وتطبيقه، نأتي لنتعرف علي مظاهر ومهام الإمامة الملكوتية المعنوية.

الإمامة الملكوتية لها مهام في جذر وعمق الوجود، لذا يذهب فريق من الحكماء والفلاسفة والعلماء، إلي أن الإمامة ضرورة من ضروريات عالم الإمكان، وهذه الضرورة هي الداعي المحرك لهذه الموجودات، من ظلمة العدم إلي نور الوجود، وهي التي أعطت للإمكان كوناً ووجوداً.

ويمكن أن نوضح هذا المطلب في عدة نقاط:

أولاً- العلة الغائية

ما هي الغاية من الخلق؟

ففي الآية الكريمة: «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ »(1).

فما هي العبودية؟

جاء في الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام: ( العبودية جوهرة كنهها الربوبية، فما فُقِدَ في العبودية وُجِدَ في الربوبية)(2)، وقال الإمام علي عليه السلام موضحاً ذلك: ( وخلق الإنسان ذا نفس ناطقة، إن زكّاها

ص: 34


1- سورة الذاريات الآية 56.
2- هدي العقول ج3 ص 113.

بالعلم والعمل شابهت جواهر أوائل عللها، وإذا اعتدل مزاجها، وفارقت الأضداد فقد شارك بها السبع الشداد)(1).

فمن هذه الكلمات المكنونة من خزانة الأسرار، يتضح لنا أن الغاية لهذا الخلق هي الوصول إلي منتهي القرب الإلهي، وتحقق الإنسان بالصفات الإلهية، وأن يكون الإنسان مثاله مثال المرآة، يعكس الصفات الجمالية والجلالية علي جميع عوالمه، سواء الظاهرية الحسية أو الباطنية المعنوية، وأن لا ينسلخ أو ينفكَّ أو يفترق عنها ولو طرفة عين.

هل تحقق هذا الغرض؟ نعم .. تحقق في الأنبياء والأوصياء والأئمةعليهم السلام.

هل كان هذا التحقق محصوراً فقط في زمن من الأزمان؟.

أم هو مستمر مع كل فترات الزمان؟.

من الممكن أن يسال القارئ: وما الفرق في ذلك؟ نعم، هناك فرق، لأننا إذا قلنا أنه محصور في زمن محدد كزمن النبوة، فهذا يعني أن وجود الخلق بعد زمن النبوة عبث في عبث، وإذا قلنا أن الغرض يجري مع الخلق في كل الأزمان، فمن الذي تحقق فيه الغرض بعد زمن النبوة؟.

وبمعنيً آخر: من هو العلة الغائية لهذا الوجود، بكل مراتبه الملكوتية والملكية، الخلقية والأمرية؟.

قلنا: إن الغاية من الخلق هي الوصول إلي جوهر العبودية، والتحقق بالصفات الإلهية، وهذا يتطلب العصمة من جهة، والعلم الإحاطي اللدُنّي

ص: 35


1- المصدر السابق ص 117.س

من جهة أخري، وليس هناك مفر من الاعتراف والإذعان بوجود مثل هذا المخلوق الذي يتمتع بهذه الصفات، فمن يكون هذا؟.

الفرقة الإمامية الاثنا عشرية تقول: إن العلة الغائية بعد النبي والرسول صلي الله تعالي عليه وآله وسلم، هم الأئمة عليهم السلام، واحداً بعد واحد، وفي هذا الزمن هو الإمام الحجة المهدي محمد بن الحسن عجل الله تعالي فرجه، مادون هذه القناعة وهذا الاعتقاد، يعني اعترافاً مبطّناً بالعبث من وجود الخلق والحياة والوجود، ولا يمكن أبدأ حل هذا الإشكال، إلا بالاعتراف والاعتقاد بأئمة أهل البيت الاثني عشر عليهم السلام، فهم في مرتبة ثانية بالنسبة إلي النبي صلي الله عليه وآله وسلم، وذلك بحسب عالم البشرية، وترتيب الحلقة الإنسانية، كما أن السيدة فاطمة عليها السلام، بنت محمدصلي الله عليه وآله وسلم، هي في مرتبته أي الأولي، ... وأما باعتبار كونهم عليهم السلام في مرتبة ثانية بالنسبة إلي النبي صلي الله عليه وآله وسلم بحسب العلوم الربانية والمقامات العقلانية ...)(1).

وخلاصة هذا المطلب أن الإمام المعصوم هو قطب الموجودات ، وهو المتحقق بالكمال الإنساني في عالم الإمكان، وتتضح هذه العلة الغائية من خلال هذا الحديث القدسي: ( يا أحمد، لولاك لما خلقت الأفلاك، ولولا علي لما خلقتك، ولولا فاطمة لما خلقتكما )، وليس معني الحديث كما يتوهم البعض، أن فاطمة - روحي فداها- هي أفضل من أبيها وزوجها، لأن هذا الحديث ناظر إلي الأسباب والأجزاء المتممة للعلة الغائية، وهو

ص: 36


1- مكيال المكارم ج1 ص 108-109.

الاستمرار والبقاء لهذه العلة، وهذا التوجيه يرفع التنافي الذي يمكن أن يتوهّمه البعض، حيث: (لا تنافي بين هذه القضايا، وذلك لأن الغرض التام إذا كان لا يتحقق إلا بمتممات، يصبح المتمم له دخل في وجوده، بنحو الداعي أو الجزء أو الشرط)(1)، فالعالم الإمكاني قائم ومستمر لوجود الإمام المعصوم، وفي هذا العصر هو قائم بفضل وجود الإمام المهدي- روحي فداه -، وأنه المقصود الأصلي والغرض الحقيقي من خلق جميع ما أنشأه الباري تعالي شأنه، وكذا آباؤه الطاهرون عليهم السلام، فهم العلة الغائية، وخَلقُ ما سواهم لأجلهم)(2).

ثانياً- العلة الفاعلية

ربما تكون هذه النقطة من أكثر النقاط إثارة للجدل والنقاش، وذلك لما تتضمنه من المعني العميق، وقد حارت في فهمها بعض العقول، وزلّت أقدام بعض أهل العلم وأرباب القلم، ففهموا من معناها غير ما أريد لها، لذلك رُمِيَ القائل بها تارة بتهمة الشرك، بمعني أنه قد جعل الله شريكاً في فعله، وتارة بتهمة التعطيل، بمعني أن الله تخلّي عن خلقه، تعالي الله عن ذلك علواً كبيراً، وتارةثالثة بأنه من أهل البدع.

والسبب في كل تلك التهم، القصور في الفهم، والتسرع في الحكم، ذلك أنه إذا ما صلح التصور للقضايا والمفاهيم، صلح معه الفهم والعلم، وإذا ما انحرف التصور للقضايا والمفاهيم، انحرف تبعاً له الفهم والعلم،

ص: 37


1- المظاهر الإلهية ج 1 ص 334.
2- مكيال المكارم ج1 ص76.

وهؤلاء قد تصوروا أن ذلك المفهوم، يعني اعتزال الله سبحانه عن خلقه، وتوكيل المهمة إلي بعض هؤلاء الخلق، دون أن يكون الله تعالي أي تأثير أو فاعلية، وهذا التصور خاطئ، إذ لا فاعل بالذات إلا هو سبحانه، وفعل ما سواه مستند إلي فعله وإرادته ومشيئته تبارك وتعالي، وهذا ما تشير إليه بعض الآيات القرآنية، فمنها علي سبيل المثال لا الحصر:

- قوله تعالي: «وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ »(1) ..

- وقوله تعالي: «وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ »(2) .

- وقوله تعالي : « وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَي»(3) .

- وقوله تعالي: « أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ »(4) ، وقال تعالي: « وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي»(5) .

وغيرها الكثير من الآيات، تشير إلي استناد الفعل الإنساني إلي المشيئة الربانية والإذن الإلهي.

وليس هناك مؤمن يقول أن النبي صلي الله عليه وآله وسلم، أو أحد من أهل بيته عليهم السلام، يفعلون في معزل عن إرادة الله ومشيئته، بل هم السبب بيننا وبين الله، سواء ذلك في الوجود أو آثاره.

ص: 38


1- سورة الإنسان الآية 30.
2- سورة التكوير الآية 29.
3- سورة الأنفال الآية 17.
4- سورة آل عمران الآية 49.
5- سورة المائدة الآية 110.

عن محمد بن مثني الأزدي، أنه سمع أبا عبد الله عليه السلام يقول: ( نحن السبب بينكم وبين الله عزّ وجلّ)(1)، وعن أبي حمزة عن علي بن الحسين عليه السلام، أنه قال: (يا أبا حمزة، لا تنامنّ قبل طلوع الشمس، فإني أكرهها لك، إن الله يقسم في ذلك الوقت أرزاق العباد، وعلي أيدينا يجريها)(2).

وهذا لا يتعارض مع فاعلية ورازقية الله سبحانه وتعالي، لأن: (العلة الفاعلة التي أعطت الوجود والحياة والحركة لهذا الكون، المصداق التام بل والمنحصر هو الباري تبارك وتعالي فقط لا غير، وما ينسب لغيره من الفاعلية والتأثير، فإما باعتبار مظهريته للقدرة والإرادة الإلهية، أو باعتبار وقوعه في السلسلة الطولية للعلل)(3).

إذا الاعتقاد أن النبي صلي الله عليه و آله وسلم، والأئمة من أهل بيته عليه السلام، هم في مرتبة (العلة الفاعلية) بهذا اللحاظ، وهو فاعليتهم المستمدة من الله ومشيئته وقدرته، لا يقدح في إيمان القائل به، ولا يخدش في عقيدته، بل علي العكس من ذلك تماماً - يقوّي إيمانه ويُثّبت عقيدته، وهذا ما جعل الإمامة في مصاف التوحيد والنبوّة في أصول الدين الخمسة، التي منها أيضاً العدل والمعاد، وإن التركيز علي مسألة الإمامة، أكثر من غيرها من الفرائض مثل الصلاة والصوم، إنما يجري لهذا الاعتبار، وهو أنها

ص: 39


1- بحار الأنوار ج23 ص 101.
2- مكيال المكارم ج 1 ص 28.
3- المظاهر الإلهية ج1 ص7.

من أصول الدين وليست من الفروع.

قال الإمام الصادق عليه السلام: (عُرِجَ بالنبي صلي الله عليه وآله وسلم إلي السماء مائةً وعشرين مرة، ما من مرةٍ إلا وقد أوصي الله عزّ وجلّ فيها النبي بالولاية لعليِّ، والأئمة عليهم السلام من بعده، أكثر مما أوصاه بالفرائض)(1).

فالإمام له أن يتصرف في الكون إنشاءً وإبقاءً وإنماءً وإمساكاً، بإذن الله لأنه خليفة الله، والله سبحانه وتعالي أعطاه وأقدره، ومكّنه من ذلك، وكرّمه علي غيره من خلقه، ولا اعتراض علي مشيئة الله، قال تعالي : «لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ »(2).

وروي عن أمير المؤمنين علي عليه السلام أنه قال: (نحن صنائع ربنا، والخلق بعد صنائعٌ لنا)(3).

ثالثاً- العلة المبقية
اشارة

بقاء العالم واستمرار الوجود الإمكاني منوطٌ ببقاء الإمام ووجوده، ويستدل علي ذلك بالدليلين العقل والنقلي معاً.

الدليل العقلي

إنه لما كان العالم محتاجاً ومفتقراً في وجوده، إلي العلة المخرجة له من ظلمة العدم إلي نور الوجود، فهو أيضاً -أي العالم - محتاجٌ إلي نفس العلة

ص: 40


1- بحار الأنوار ج23 ص 69.
2- سورة الأنبياء الأية 23.
3- مكيال المكارم ج 1 ص 76.

و ذاتها في بقائه وديمومته واستمراريته، فاستمرار المعلول - الذي هو عالم الإمكان - وبقاؤه باستمرار، وبقاء علته -الذي هو الإمام - التي تفيض عليه الوجود، مثال ذلك الشمس، فلو انعدمت الشمس التي هي العلة ،انعدم تبعاً لانعدامها النور المعلول بها.

الدليل النقلي

لقد تضافرت الروايات في توكيد هذا المعين، فمنها:

عن جابر الجعفي قال: قلت لأبي جعفر بن علي الباقر - عليه

السلام: لأي شيء يُحتاج إلي النبي صلي الله عليه وآله وسلم والإمام عليه السلام؟ فقال: (لبقاء العالم علي صلاحه)(1).

وعن أبي حمزة قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: تبقي الأرض بغير إمام؟ قال: (لو بقيت الأرض بغير إمام ساعة لساخت)(2).

وعن سليمان بن جعفر الجعفري قال: سألت الرضا عليه السلام فقلت: تخلو الأرض من حجة؟ فقال: ( لو خلت الأرض طرفة عين من حجة لساخت بأهلها)(3).

والأرض هنا تعبير بالجزئي عن الكلي، كما يعبر بذلك أهل المنطق والفلسفة، والتعبير بالأرض هو من باب إطلاق الجزئي علي الكا

إن المراد من قول الإمام عليه السلام: (لو خلت الأرض طرفة عين

ص: 41


1- مكيال المكارم ج1 ص146.
2- بحار الأنوار ج23 ص 21، علل الشرائع ج 1 ص 231.
3- علل الشرائع ج 1 ص 234.

من حجة لساخت بأهلها)، (أن الحجة هو الواسطة بين الله تعالي وبين خلقه، فإذا ارتفع الحجة عليه السلام من الوجود يسيخ- الوجود- بأهله، وذلك لانقطاع الفيض الإلهي بذهاب الواسطة، وقد تقدم أن المستفيض المحدود يعجز عن تلقي الفيض اللّا محدود إلا بالواسطة، ومع انعدام الواسطة ينقطع الفيض)(1).

و(بما أن المؤمنين المتدينين لا يتسني لهم الوصول إلي مقام التوحيد "الشهودي والتحققي"، ولا يحظون بهذين المقامين العاليين، يتوجب عليهم إذا مبايعة مقام الولاية المطلقة" المجسِّدة للتوحيد الشهودي والتحققي، والحائزة للقرب الفرائضي والنوافلي الإلهي، والفانية هويتها في حقيقة الحق، ليتشخص توحيدهم البرهاني بتوحيد شهودي، ويكتمل إيمانهم، وقد جاء في الأثر عن المعصوم: (بنا عُرِفَ الله وبنا عُبِدَ)(2).

وجاء عن الرسول صلي الله عليه وآله وسلم أنه قال: ( لا تقوم الساعة حتي يخرج نحو من ستين كذاباً، كلهم يقول: أنا نبي)(3).

ص: 42


1- المظاهر الإلهية ج 1 ص 265.
2- العارف الكامل ص 181.
3- بحار الأنوار ج 21 ص 422.

الفصل الثاني: أصالة حقيقة المهدي (عجّل الله تعالي فرجه الشريف)

اشارة

ص: 43

ص: 44

هل المهدي حقيقة ثابتة؟

هل المهدي حقيقة ثابتة؟.

أم هو مجرد ادّعاء كاذب وفكرة خرافية وهمية؟.

من باب الأمانة العلمية نقول: إن البعض يصنف فكرة المهدي ضمن الأفكار الخرافية، وذلك لأجل أغراض شخصية أو أهداف ذاتية، وهولاء - وإن كانوا قلة نادرة جداً - ينكرون حقيقة المهدي، ويرفضون قبول هذه الحقيقة، ويقولون: إنها ليست حقيقة من الحقائق، وإنما هي وهم و خيال و خرافةوأكذوبة.

وما هو دليلهم علي ذلك؟

الدليل علي ذلك عندهم، هو أن شخصية المهدي قد انتحلت مرات كثيرةً وعديدة، وادّعاء الكثيرين من الناس كذباً، كل واحد منهم علي أنه المهدي، هو بحد ذاته دليل علي بطلان حقيقة المهدي.

هكذا ( قد حاول البعض، أن يجعل من ادّعاء المهدوية سبباً للطعن بفكرة المهدي وأصالتها، والعكس هو الصحيح، فالادّعاء يدل علي أن المدّعين يستغلون حقيقة موضوعية، واعتقاداً راسخاً عند الناس، ثم لو صح أن الادّعاء مبطل لأصل القضية، فلازم ذلك إبطال النبوّات، لكثرة المدعين بها)(1)، وقد جاء عن الرسول صلي الله عليه وآله وسلم أنه قال:

ص: 45


1- بحث حول المهدي ص 9-10.

(لا تقوم الساعة حتي يخرج نحو من ستين كذاباً، كلهم يقول أنا نبي)(1).

(وليس لدي جميع هؤلاء ما يدعم إنكارهم من الأدلة والمستمسكات الموثوقة، بل الدليل قائم علي خلاف مذاهبهم، .... لثبوت التواتر كما حكاه غير واحد)(2).

(ينطلق المنكرون للإمام المهدي، من دوافع ومنطلقات لا تنسجم مع منهج الإسلام العام في طرح القضايا، ... الذي يعتمد علي العقل والمنطق والفطرة ... يقوم في جانب مهم منه علي ضرورة الإيمان بالغيب، وإن هذا الغيب سواءٌ تعقله الإنسان وأدرك جوانبه، أو لم يستطع إدراك شيءٍ منه، وخفيت عليه أسراره ...)(3).

يمكن للمتتبع لهذه الحقيقة، من خلال قراءة الأديان والمذاهب، والفرق والمدارس الفكرية والإيديولوجيات المختلفة - أن يلمس منها جميعاً أنا متفقة علي أن حقيقة المهدي، الذي سيكون في آخر الزمان، حقيقة واقعية لها أصالتها في جميع المعتقدات الدينية، ونحن هنا الآن لا نتكلم عن المصداق لهذه الحقيقة، أي من هو المهدي، وإنما حديثنا حول الحقيقة المجرّدة، وأما من هو المهدي وما هي صفاته ومقاماته، فهذا بحث آخر ، سيأتي أوان الكلام عنه فيما بعد، أما الآن فنحن بصدد إثبات الفكرة والحقيقة المهدوية فقط.

ص: 46


1- بحار الأنوار ج 21 ص 422.
2- بحث حول المهدي ص 9-10.
3- المصادر السابق ص 12.

الأدلة علي إثبات أصالة حقيقة المهدي

أولاً- الإلهام الفطري

ما هي الفطرة؟:

الفطرة: هي الابتداع والاختراع، قال الله سبحانه وتعالي في الكتاب العزيز : «الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ »(1) ، قال ابن عباس رضي الله عنه: (ما كنت أدري ما فاطر السماوات والأرض، حتي أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، أي أنا ابتدأت حفرها)(2).

ومن معانيها: الحلقة.

و: (ما فطر الله عليه الخلق من المعرفة به)(3).

من خلال الدراسات الواسعة، وجدنا أن الإنسان تحركه فطرته - بشكل دائم وإلحاح مستمر - نحو نوعين من الاحتياج:

1- الحاجات الفطرية المتعلقة بالجانب المادي والحسي، وعلي رأس هرم هذه الحاجات: الطعام لسد الجوع، والشراب لسد العطش، واللباس لستر العورة، والجنس لاستمرار النوع، والراحة لإرجاع النشاط والحيوية، وهذه الأنواع من الحاجات، لا يمكن لأي إنسان أن يتنكّر لها، أو يلتفَّ عليها.

ص: 47


1- سورة فاطر الآية 1.
2- لسان العرب ج 5 ص 66.
3- المصدر السابق.

2- الحاجات الفطرية المتعلقة بالجانب المعنوي، كالحاجة إلي الأمن، والحاجة إلي العدل، والحاجة إلي الحرية والمحبة والكرامة والتعاون.

وعندما نتأمل هذه الأقسام والفروع كلها، سواء المادي منها والمعنوي، نري أنها مطلب إنساني منذ أول يوم تكوّن فيه الإنسان، وأول يوم يخرج فيه إلي الدنيا ساعة ولادته، فهو بالفطرة يبحث عن الغذاء من طعام وشراب، فيلتقم ثدي أمه لذلك الغرض، ويبحث عن الأمن والأمان والحنان والحب، فيجده في حجر أمه، فيتقلب في حضنها مطمئناً، وهذه الحاجيات تلازم الإنسان رضيعاً وصغيراً وشاباً وكبيراً، في الدنيا والآخرة، وإن اختلفت صورها وموادّها.

يقول الإمام الخميني قدس سره: (هذه الفطرة أثبتها المشايخ العظام، وحكماء الإسلام الكبار، ... وأثبتوا بها الكثير من المعارف الإلهية)(1).

وبما أن هذا الأمر ثابت من جهة الفطرة الإنسانية، وضمن حاجاتها الذاتية، فلا بد أن يأتي يوم من الأيام، تتحقق فيه كل الاحتياجات السامية للبشرية جمعاء، ومن هذا الاعتبار الاحتياجي يُستَدَلُّ علي حقيقة المهدي، لأن المهدي يسد جميع هذه الاحتياجات معاً، ماديَّها ومعنويَّها، حيث أن دوره ورسالته يقتضيان تقويم وعلاج وشفاء الإنسانية والبشرية، والكون كله، من الجانبين معاً، المادي والحسي والصوري، والمعنوي الباطني، ولن يقتصر دوره فقط علي علاج وسد الحاجات المعنوية، بل سيقوم الإمام المهدي بسد الحاجات المادية كذلك، فيقضي علي الفقر والحرمان والجوع

ص: 48


1- العارف الكامل - حاشية ص 20.

والمرض.

فالمهدي عجل الله تعالي فرجه وسهّل مخرجه، ليس مصلحاً للجانب المعنوي فقط، وإنما هو مصلح للجانب المادي أيضاً، فجميع من في عالم الإمكان سينعمون بالخير والرفاه، والعيش الرغيد والحياة الكريمة في وقت ظهوره، والإيمان بهذا الأمر يتحرك من أعماق الفطرة الإنسانية والبشرية.

ثانياً- برهان العشق

برهان العشق هو في الأصل، من البراهين التي يسوقها بعض الحكماء والفلاسفة لإثبات الآخرة، ومعني هذا البرهان، أن الإنسان يعشق الخلود، ويعشق اللذة من غير ألم، ويعشق الخير المطلق، وهذا العشق متغلغل في أعماق النفس الإنسانية، فلا بد إذاً أن يأتي يوم أو وقت يمكن للإنسان أن يحقق فيه كل ذلك، نعم ليس من الضرورة أن يكون ذلك في عالم الدنيا، فإذا كان الوعاء الدنيوي لا يتسع لتحقيق هذا العشق، لعدم سعة هذا الوعاء وقابليته، فيقتضي ذلك وجود عالم آخر واسع وقابل لتحقيقه، وهو عالم الآخرة.

(فالالتفات إلي فطرة عشق الراحة والحرية، وإلي ما عليه هذا العالم، من ضيق وموانع تحول دون نيل العاشق لمعشوقه، يجعلك تقطع بعدم وجود هذا المعشوق في عالم الملك، ولأنك شعرت بالعشق، وأدركت أن معشوقك في عالم آخر، ستقبل علي الآخرة)(1) .

وكما أن الحكماء والفلاسفة قد أثبتوا الآخرة ببرهان العشق، فإننا

ص: 49


1- العارف الكامل ص 171.

نستطيع كذلك أن نثبت حقيقه المهدي بنفس البرهان، وذلك بما يلي:

بما أن الإنسان يعشق التطور والترقي، ويعشق فتح المجاهيل العلمية، ويعشق تحويل الغيب في بعض مراتبه إلي شهادة، ويعشق إعمار الأرض وفتح السماوات، فهذا دليل علي حقيقة المهدي، وهذا هو ما تتطلع إليه البشرية جمعاء، وتعشقه جميع الكائنات، فمن ضمن أنواع هذه التطلعات العشق لمصلح عالمي كوني، ليس فقط للإصلاح علي الصعيد الإنساني، بل علي صعيد جميع مكونات هذا العالم، بجميع أنواعه وأجناسه.

ثالثاً- المهدي حقيقة جامعة

إن المهدي حقيقة من أكثر الحقائق ارتكازاً في القناعة البشرية، بغض النظر إن كان هؤلاء البشر من المؤمنين أم لم يكونوا، لهم عقيدة صحيحة أم لا، آمنوا بالأنبياء والرسل أم لم يؤمنوا.

من الممكن أن لا يعتقد البعض أو يؤمنوا بالأنبياء والرسل، ولكنهم- مع ذلك- يؤمنون بحقيقة المهدي المصلح، الذي سيخرج في آخر الزمان، وهذا دليل علي أن هذه الحقيقة قد خرجت من إطارها الديني إلي إطارها الإنساني، وكأن حقيقة المهدي هي الأوسع والأكثر عمقاً وعشقاً وإيماناً بها، حتي من حقيقة الأنبياء عند الكثير من البشرية، ويعود سبب ذلك إلي أنها الحقيقة المشتركة والجامعة، التي تتجمع حولها كل الموجودات قاطبة، ومن هنا تأتي هذه الحقيقة القوة والثبات في النفوس، منذ أقدم الأزمان والعصور، ويعتبر المنكر لها في عداد الكافرين.

وقد ( انتهي المحققون من علماء الفريقين، إلي القول بأن من كفر

ص: 50

بالمهدي فقد كفر بالرسول محمد صلي الله عليه وآله وسلم، وليس ذلك إلا بلحاظ أنه ثبت بالتواتر، وأنه من ضرورات الدين، والمنكر لذلك كافر إجماعاً)(1).

ومن هنا نستطيع أن نقول: إن حقيقة المهدي أوسع وجوداً من جميع الحقائق الدينية والإنسانية، والسبب في ذلك أنها ليست منحصرة في دين أو مذهب أو فئة أو طائفة أو عرق أو جنس أو لون أو قوم، بل الأمر أوسع من نطاق البشرية والإنسانية والأرض ومن عليها، لأنها في الواقع، الحقيقة المعشوقة لكل الموجودات الإمكانية علي اختلافها وتباينها، فكلها تطلع إلي المهدي الذي سيخرج في آخر الزمان، (إذن، فالمهدوية ليست حلم البشر علي الأرض وحدهم، بل هي قانون إلهي شامل لأجزاء الكون)(2).

هذه الأدلة الثلاثة تثبت لنا حقيقة المهدي، ويمكن الاعتماد لإثباتها أيضاً علي المظاهر التكوينية للإمامة، من استمرار العلة: الغائية والفاعلية والمبقية، إضافة إلي الأدلة الدينية المتمثلة في التواتر، الذي لا نظير له في أي قضية أو حقيقة أخري، (فقد أحصي مجموع الأخبار الواردة في الإمام المهدي من طرق الشيعة والسنة، فكان أكثر من ستة آلاف رواية، وهذا رقم إحصائي كبير، لا يتوفر نظيره في كثير من قضايا الإسلام)(3).

ص: 51


1- بحث حول المهدي - حاشية ص 61.
2- الطور المهداوي ص 34.
3- بحث حول المهدي ص 84.

ومن هذه الروايات:

- قال النبي صلي الله عليه وآله وسلم: (المهدي حق، وهو من ولد فاطمة)، وقال صلي الله عليه وآله وسلم: (من أنكر القائم من ولدي في زمان غيبته فمات، مات ميتة جاهلية)(1).

- وعن الإمام الصادق عليه السلام، عن آبائه عن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم، أنه قال: (من أنكر القائم من ولدي فقد أنكرني )(2).

وقد اعترف بالمهدي وأقر به حتي من أنكر إمامة أهل البيت عليهم السلام من الفرق الأخري، قال الشيخ عبد العزيز بن باز: ( أما إنكار المهدي المنتظر بالكلية - كما زعم بعض المتأخرين- فهو قول باطل، لأن أحاديث خروجه قد تواترت تواتراً معنوياً و كثرت جداً واستفاضت، وهو كالإجماع بين أهل العلم(3)).

وفي مجلة الفيصل السعودية، سأل قارئ للمجلة، عن حقيقة خروج المهدي في آخر الزمان، وقد أجاب الشيخ صالح الفوزان بما يلي: (وأما ظهور المهدي في آخر الزمان، فالإيمان به واجب كما هو مقرر عند أهل العلم، ومدوَّن في عقائد أهل السنة والجماعة، وقد تواترت بذلك

ص: 52


1- المهدي المنتظر، حقيقة أم خرافة؟ ص 194.
2- مكيال المكارم ج1 ص 57.
3- المهدي وفقه أشراط الساعة ص 89، سيكولوجية الانتظار ص127.

الأحاديث عن النبي صلي الله عليه وآله- وسلم)(1).

فحقيقة المهدي إذاً ثابتة بالأدلة الفطرية والوجدانية، وبالنصوص الدينية، وعلم الاجتماع العام الإنساني، وهي ثابتة أيضاً بأدلة من الكتاب التكويني، فالكون كله دليل علي حقيقة المهدي.

- عن جابر بن يزيد، عن أبي جعفر عليه السلام، قال في شأن أولي العزم من الرسل: ... (وإنما سُمّوا أولي العزم، لأنهم عُهِدَ إليهم في محمد صلي الله عليه وآله وسلم، والأوصياء عليهم السلام من بعده، والمهدي عجل الله فرجه وسيرته، فأجمع عزمهم أن ذلك كذلك، وأقروا به(2).

ص: 53


1- المهدي المنتظر حقيقة أو خرافة؟ ص 188.
2- علل الشرائع ج1 ص 148.

ص: 54

الفصل الثالث : المهدي والكمال الوجودي

اشارة

ص: 55

ص: 56

الإيمان بالغيب

دعونا نؤسس بحثنا علي ركيزة أساسية، وهي ركيزة الإيمان بالغيب، ما هو الغيب؟.

الغيب: كل ما غاب عنك، وأيضاً ما غاب عن العيون، وإن كان محصَّلاً في القلوب)(1).

والغيب: عكس الشهادة، في التقسيم الأولي للوجود أو الموجودات، باعتبار أنها تنقسم إلي عالَمين: عالَم الغيب وعالَم الشهادة، قال تعالي : «عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ » (2)، وقال: «عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَي عَمَّا يُشْرِكُونَ »(3)، وقال عزّ وجلّ: «ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ »(4).

والغيب بتعبير آخر: ما يتعالي علي الحواس، وأهم ما في هذا الغيب نوعان:

النوع الأول: الغيب الماضوي، أي الماضي بكل تاريخه وأحداثه. النوع الثاني: الغيب المستقبلي، بكل ما سيجري ويقع في المستقبل.

ونحن في هذا العصر نؤمن بكلا النوعين من الغيب، الغيب الماضوي

ص: 57


1- لسان العرب ج 1 ص 767.
2- سورة الرعد الآية 9.
3- سورة المؤمنون الآية 92.
4- سورة السجدة الآية 6.

والغيب المستقبلي معاً، فإننا لم نر الأنبياء والرسل، ولم نر حتي رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم، ولا الأئمة عليهم السلام، ولم نعش معهم، ولا كنا من المعاصرين لهم، ومع ذلك فنحن نؤمن بهم إيماناً يقينياً، علي وجه الإجمال والتفصيل.

فنحن إذاً نؤمن بالغيب الماضوي، وإذا ضممنا إيماننا به إلي الإيمان بالنوع الثاني، وهو الغيب المستقبلي - وفي مقدمة هذا الغيب اليوم الآخر و خروج المهدي، - فسيكون هذا الإيمان فريداً من نوعه، ومن الممكن أن يكون المؤمن- في عصرنا- بهذين النوعين من الغيب، قد تخطي درجة الكثيرين من المؤمنين، حتي ممن صحبوا الأنبياء والرسل، و كانوا معهم في فترة زمانية واحدة، فعن النبي صلي الله عليه وآله وسلم أنه قال: (يا علي، أعجب الناس إيماناً وأعظمهم يقيناً، قوم يكونون في آخر الزمان، لم يلحقوا النبي، وحجب عنهم الحجة، فآمنوا بسواد علي بياض)، أي بالأحاديث التي كتبت علي القرطاس(1).

فنحن في مثل هذه الصورة - لم نر رسول الله صلي الله عليه و آله وسلم، ولا الإمام المعصوم عليه السلام، كما أن إمام زماننا الذي نؤمن به وننتظر ظهوره، هو في عصر الغيبة، فنحن إذاً نؤمن بالغيب بكلا شقيه و جزأيه الماضوي والمستقبلي، وإذا كان هذا الإيمان صادقاً وعن معرفة وبرهان، فصاحبه من أعظم المؤمنين، ويثير العجب، بشهادة رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم.

ص: 58


1- ينابيع المودة ج 3 ص 169، بحار الأنوار ج 21 ص 366.

ما الذي سيأتي به الإمام المهدي (عجّل الله تعالي فرجه الشريف)؟

سوف يأتي الإمام المهدي عجّل الله تعالي فرجه الشريف، وهو يحمل مشروعاً إصلاحياً عظيماً علي جميع الأصعدة والمجالات، وبكلمة أو جملة مختصرة، سيأتي وهو يحمل حقائق الكمال الوجودي، وسيقوم بإيصال الخلق والموجودات كلها إلي كمالها وهدفها وغايتها.

ص: 59

كيف سيحقق الإمام المهدي هذا الهدف الصعب؟

اشارة

ما هي الوسائل التي سيستخدمها لتحقيق هذه الأهداف العظيمة والكبيرة؟.

وبتعبير آخر، ما هي الخطوات التي سيتم بها إنجاح هذه المهمة

الربانية؟.

أولاً - تجلي العلم والمعرفة

اشارة

من الأمور التي اتفق عليها العقلاء، أن العلم والمعرفة هما من أوسع المجالات والمحاور، سواء علي الصعيد الإنساني أو علي الصعيد الكوني، ومن المعلوم أيضاً، والمؤكد بشهادة القرآن الكريم وشهادة العلماء، أن هذا الكم الهائل من العلم والمعرفة الذي توصل إليه الإنسان، ليس في الواقع إلا نقطة واحدة من بحر العلم الواسع ، وأن المجهولات والأسرار والألغاز لا يمكن حصرها أو وصفها، وهذا اعتراف الكثيرين من العلماء الإلهيين والماديين علي حد سواء، ويؤكد القرآن الكريم هذه الحقيقة بقوله تعالي :

«وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا »(1) .

وإن ما نشهده اليوم ونراه من تقدم ورقي وحضارة، إنما تمّ . مفاتيح العلوم التي فُتحت بها العديد من المجهولات، وكُشف بها الكثير من أسرار المغيَّبات،وإن هذا لشيءٌ رائعٌ حقاً ومذهل، ولكن الذي لا يعلمه الكثير

ص: 60


1- سورة الإسراء الآية 85.

من بني الإنسان المبهورين بزخارف الحضارة المادية والصورية، أن كل هذه الإنجازات العلمية والحضارية، ما هي إلا صفرٌ، أو علي الأكثر نقطة في عالَم الأرقام، إذا ما قيست بما سوف يتجلّي و يتحقق من العلوم، وما سوف ينفتح من أسرارها وحقائقها وأبوابها، يوم الظهور المبارك للإمام المهدي عجل الله تعالي فرجه وسهّل مخرجه.

جاءت في تأكيد هذا المعني، وتثبيت هذه الحقيقة، بعض الروايات والأحاديث عن أهل البيت عليهم السلام، منها:

- عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ( العلم سبعة وعشرون حرفاً، فجميع ما جاءت به الرسل حرفان، فلم يعرف الناس حتي اليوم غير الحرفين، فإذا قام قائمنا أخرج الخمسة والعشرين حرفاً، فبثّها في الناس، وضم إليها الحرفين حتي يبثها سبعة وعشرين حرفاً)(1).

- عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: (كان في ذؤابة سيف رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم صحيفة صغيرة)، فقلت لأبي عبد الله: أي شيء كان في تلك الصحيفة؟ قال: (هي الأحرف التي يفتح كل حرف ألف حرف)، قال أبو بصير : قال أبو عبد الله: فما خرج منها حرفان حتي الساعة)(2).

- وفي حديث عن أبي جعفر عليه السلام قال: (وتؤتَون الحكمة في زمانه، حتي أن المرأة لتقضي في بيتها بكتاب الله تعالي وسنة رسول الله

ص: 61


1- مكيال المكارم ج 1 ص 304، بحار الأنوار ج 21 ص 506.
2- حقيقة الإمامة في المدرسة العرفانية ص 80.

صلي الله عليه وآله وسلم)(1).

- وقال أمير المؤمنين عليه السلام: ( يا كميل، ما من علم إلا وأنا أفتحه، وما من شيء إلا والقائم يختمه)، المراد بشيء: إما العلم، بقرينة صدر الكلام، وإما جميع الكمالات والأخلاق الحسنة، والعلوم والمعارف الحقة التي أظهر سائر الأئمة بعضها، بمقتضي صلاح زمانهم، والقائم عجل الله فرجه يظهر جميعها، فالجميع يختم بظهوره(2).

وفي حديث الراهب الذي أسلم علي يد مولانا الكاظم عليه السلام: (... ثم إن الراهب قال: أخبرني عن ثمانية أحرف نزلت، فتبين في الأرض منها أربعة، وبقي في الهواء منها أربعة، علي من نزلت تلك الأربعة التي في الهواء؟ ومن يفسرها؟ قال عليه السلام: ذاك قائمنا، ينزلها الله عليه فيفسرها، وينزل عليه ما لم يترل علي الصدّيقين والمرسلين والمهتدين)(3).

والكشف عن هذه العلوم، وتجلّي هذه الأسرار، لم يُتَح لأحد إظهاره وكشفه قبل الإمام المهدي عجل الله فرجه، لا من الأنبياء ولا من الأوصياء عليهم الصلاة والسلام، وذلك إما بسبب عدم وجود القابل لتلقي هذه العلوم والأسرار، أو - من جانب آخر - لخوفهم من أن يُتَّهَموا في دينهم، ومما يؤيد الأول قول أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام: (إن هاهنا لعلماً كما لو أصبت له حاملاً)، ويؤيد الثاني قول الإمام زين العابدين عليه

ص: 62


1- مكيال المكارم ج 1 ص 154.
2- المصدر السابق ج1 ص 139.
3- مكيال المكارم ج 1 ص 139.

السلام: إني لأكتم من علمي جواهره* كي لا يراه أخو جهلٍ فيفتنا وربَّ كنز علوم لو أبوح به* لقيل لي: أنت ممن يعبد الوثنا ولا ستحلٌ رجال مسلمون دمي* ولارتأوا قبح ما يأتونه حسنا وبما أن لهذه الجواهر العلمية والمعرفية و جوداً، فلا بد لها من تحقق، وتجلِّ وظهور وانكشاف، كي يستفيد منها الإنسان والكون، ومن هنا يصل الإنسان إلي حقيقةٍ مهمة، وهي: كم كان الإنسان ظلوماً وجهولاً، عندما حرم نفسه من هذه العلوم والمعارف، طيلة هذه الآلاف من السنين، فيصل إلي أنه كان يعيش حقيقة الحرمان من هذه المعارف الإلهية التي كان باستطاعته أن يصل إليها منذ زمن بعيد، لو أطاع الله عزّ اسمه، ورسوله صلي الله عليه وآله وسلم، والأئمة عليهم السلام من بعده.

وأختتم هذه النقطة المهمة بهذا المبحث، الذي يكشف لنا حقيقةالتقدم والحضارة من زيفهما ووهمهما.

المعيار الحقيقي والواقعي للتقدم والحضارة

ما هو المعيار الحقيقي والواقعي للتقدم والحضارة؟ .

لكي يكون الجواب شافياً، فنحن بحاجة إلي تقديم مقدمة توضيحية، وهي:

إن حياة الإنسان تخضع إلي قسمين من الحاجات:

1- الحاجات المادية: وهي التي تدور في الفلك المادي والطبيعي للإنسان، كالطعام والشراب واللباس والمسكن ووسائل التنقل .. إلخ.

ص: 63

2- الحاجات المعنوية: وهي التي تدور في فلك العالَم المجرَّد، وإن كان له انعكاس علي البعد الأول، الفلك المادي من الحاجات الإنسانية، ومنها: الإيمان والعبادة والأخلاق والقيم .. إلخ.

بمعني آخر: للإنسان حاجات تخص المظهر، وحاجات تخص الجوهر، والحقيقة الإنسانية هي بالجوهر وليست بالمظهر، بإنسانية الإنسان وليست ماديته وترابيته.

إذا فهمنا هذه المقدمة، نأتي إلي سؤال آخر:

التقدم والحضارة والمدنية والتطور، بأي منهما يتحقق؟ وفي أي منهما يكمن؟ في المظهر أم في الجوهر؟ في البعد الحقيقي للإنسان؟ أم في البعد الصوري؟.

الجواب علي هذه الأسئلة دون تعسف وتأويلات، يوصل الإنسان إلي معرفة الحقيقة عن هذا التقدم وهذه الحضارة.

لا يختلف اثنان في أن التقدم الحالي قد صبّ جميع أشكاله وأنواعه في الجانب الأول، وهو الجانب المادي والمظاهر المادية، من أمثلة ذلك وسائل النقل، التي كانت تعتمد في السابق علي الخيل والحمير والبغال والجِمال، بينما تعتمد اليوم علي السيارة والطائرة والقطار، وقس علي ذلك.

وعندما نعود إلي القرآن الكريم ونستعرض آياته، نراها تذكر التقدم والتأخر كذلك، ولكن أي نوع من التقدم؟ يقول القرآن الكريم : «كَلَّا وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ ، وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ ، إِنَّهَا لَإِحْدَي الْكُبَرِ ، نَذِيرًا لِلْبَشَرِ ،

ص: 64

لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ »(1) .

ذكروا في تفسير قوله تعالي : «إِنَّهَا لَإِحْدَي الْكُبَرِ » ، أن الضمير يعود إلي "سقر"، والكبر جمع كبري، والمراد بكون سقر إحدي الكبر، أنها إحدي الدواهي الكبير، لا يعادلُها غيرها من الدواهي، وقيل في قوله تعالي: «لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ» ، المراد بالتقدم والتأخر : الاتّباع للحق ومصداقه الإيمان والطاعة، والمراد بالتقدم والتأخر، السبت إلي الخير والتخلف عنه(2).

إذاً التقدم في الرؤية القرآنية، هو في الإيمان والخير وتحقيق الفضيلة، كما جاء في التفسير، التقدم: هو السبق إلي اتّباع الحق، والتأخر : هو الإحجام عن اتّباع الباطل.

فالتقدم المطلوب قرآنياً هو في البعد الجوهري للإنسان، وليس في المظاهر والماديات واتّباع الصيحات والذوبان في الموديلات.

مما تقدم يتضح لنا المعيار الحقيقي المراد من التقدم والحضارة، وهو الذي يقوم علي أساس بناء الإنسانية بناء جوهرياً، وهذا يعني لنا أمرين:

الأول - التقدم المتصل بالذات الإنسانية الثابتة، لا بالعوارض المتغيرة والمتحولة والمتبدلة المنفصلة عن الذات، كتقدم الآلات والوسائل التي هي خارجة عن ذات الإنسان وحقيقته.

وربما يسأل القارئ، أليس هذا النوع من التقدم التقدم المادي -هو

ص: 65


1- سورة المدّثر الآية 32-37.
2- تفسير الميزان ج20 ص 103.

من نتاج الفكر البشري وبواسطة العقل الإنساني ؟.

نقول نعم، ولكن الإنسان قدّم المادة الجامدة وحرّكها وقام بتفعيلها، وبني الحضارة وغفل عن نفسه وذاته، وهو في هذا المجال ما زال يراوح في مكانه، جاهلاً حقيقة نفسه و جوهر ذاته.

خذ مثالاً علي ذلك الحربين العالميتين الأولي والثانية، ف (في الحرب العالمية الأولي قتل في ساحة الحرب تسعة ملايين إنسان، وأصبح 22 مليوناً من المعاقين والمشوّهين، وفقد أكثر من خمسة ملايين، وبلغت ميزانية الحرب كلها حوالي 400 مليار دولار، وفي الحرب العالمية الثانية، قتل سبعة عشر مليوناً، وبلغت الخسائر البشرية كلها 35 مليوناً، وأريق علي الأرض سبعة عشر مليون ليتر من الدماء، وبلغت خسارات سقوط الجنين و شبهه اثني عشر مليوناً، ودمرت خمسة عشر ألف مدرسة وجامعة، وخرّب ثمانية عشر ألف مختبر، وانفجرت في الجو حوالي 400 مليار قذيفة، واضطر مليون شخص في بريطانيا لتركيب عيون زجاجية، وصنعت في روسيا 4 ملايين رجل اصطناعية للجنود الذين قطعت أرجلهم)(1) .

ما رأيك بهذه الحضارة؟ .. إنها حضارة الطمع والجشع والاستغلال، حضارة القوة والغلبة والظِّفرِ والناب، ولتذهب الإنسانية والجوهر الإنساني - في نظر هولاء- إلي الجحيم، ويا مرحباً بالحيوانية والوحشية.

إن التقدم والحضارة اللذين لا يمسّان الجوهر أو الذات الإنسانية، هي

ص: 66


1- القلب السليم ج2 ص 422.

حضارة شوهاء ناقصة.

(من وصية أفلاطون إلي تلميذه أرسطو: ... ولا تجعل بضاعتك من أشياء خارجة عن ذاتك، لا يُعَدُّ من الحكماء من يفرح بنيل لذة من لذّات الدنيا)(1)، و ( قيل أن ثريّاً تاه وافتخر علي فقير، فقال له: إن افتخرتَ بفرسك فالحسن للفرس لا لك، وإن افتخرت بثيابك فالحسن لها دونك، وإن افتخرت بآبائك فالفضل فيهم لا فيك، وإن افتخرت بمنصبك فالشرف منه لا منك، فكل المحاسن خارجة عنك، وأنت منسلخ عنها، وقد رددناها علي أصحابها وبقيت صفر اليدين)(2).

نحن لا نريد أن يتصور البعض أننا ضد السيارة والطائرة، والتلفزيون والكمبيوتر، أو ضد التطور المادي عموماً، فنحن نستمتع بخيرات ونتائج هذا التقدم والتطور إلي أبعد مدي ممكن، ونري أنه ساهم إلي حد ما في إسعاد البشرية، وإيصالها إلي بعض غاياتها وأهدافها، ولكنه لم يوصل هذه البشرية إلي غاياتها وأهدافها الصحيحة، إنه لم يوصل الإنسان إلي كماله الحقيقي، ولذلك فنحن هنا بصدد نصحيح مغالطة خطيرة في معني التقدم، نريد لهذا التقدم أن يصعد بجناحين لتستقيم مسيرته، نريد لهذه الحضارة أن تطير بجناحين يعتمدان علي البعدين المادي والمعنوي للإنسان، بدلاً من أن تطير به بجناح واحد فقط هو البعد المادي، فتشقي الإنسانية أكثر بكثير مما تسعدها، هذا هو هدفنا وهذه هي غايتنا من هذا البحث.

ص: 67


1- كشكول البهائي ج3 ص 210.
2- الإسلام والعقل للشيخ مغنية ص 172.

الثاني - التقدم المتصل بجوهر الحياة الإنسانية

ما هو جوهر الحياة؟

لا يوجد من العقلاء من ينكر أن من جوهر الحياة الإنسانية، الأمن والصحة والعلم والأخلاق والاطمئنان والعدل والحرية ... إلخ، فإذا أفرز لنا التقدم انخفاضاً ملموساً في نسبة الجريمة، ونسبة الفقر ونسبة الأمراض، بمعني انخفاض نسبة المجرمين والفقراء والمرضي، فهذا يعتبر تقدماً حقيقياً، لكن ما نلمسه من التقدم الحالي هو العكس تماماً، فالجريمة انتشرت أكثر من ذي قبل، لأن بعض أنواع هذا التقدم تخدم المجرمين، وتصب في مجال توسيع نطاق الجريمة، والفقر والحرمان هو الآخر في ازدياد مضطرد، بل هو السمة الرئيسية لهذا التقدم، والأمراض تفتك بالعباد أكثر من ذي قبل، رغم التقدم الهائل في مجال العلم والمعرفة، فأية حضارة هذه؟ وأي تقدم وتطور هذا؟.

إنها الحضارة المادية ذات الجناح الواحد، وهو التقدم المادي والحسي الخالي من جوهر الحياة الإنسانية.

وعلينا أن ندرك أن الحياة الإنسانية، لها متطلباتها التي لا يمكن أبداً أن تتغير، هذه المتطلبات هي الجوهر الحقيقي للحياة، فإذا ما صبّ التقدم خدماته ووسائله فيما هو الجوهر، نستطيع أن نقول بكل حزم وجزم، أن الإنسان سينعم بالتقدم والحضارة، وسيسعد بهما، أما إذا ما جذّر المشاكل الحياتية، ووسّع من أمراضها، فهل نعد ذلك تقدماً وحضارة؟.

ص: 68

عهد الرسول (صلّي الله عليه وآله ) وعهد المهدي (عجّل الله تعالي فرجه الشريف)

عندما ننظر إلي عهد النبي صلي الله عليه وآله وسلم، نراه - بالنسبة إلي غيره من العهود - عهد تقدم، وذلك من حيث ما تحقق من إنجازات جوهرية حقيقية في جوهر الحياة من جهة، وما أحدثه هذا العهد من تقدم في الذات الإنسانية من جهة ثانية، من حيث تحقيق معاني وقيم الإيمان في النفوس، ومن حيث الإقبال علي العلم وعلي الأعمال الصالحة، والتحلّي بالأخلاق الفاضلة، وتحقيق المساواة وإلغاء الفوارق المادية المصطنعة بين بني البشر، من عرق وجنس ولون و .. و .. إلخ، وتحقيق العدالة والأخوّة بين الجميع، وإعطاء المرأة مكانها ودورها الطبيعي، فهذه كلها تشكل جوهر الحياة في طريق التقدم الحضاري الحقيقي.

أما دولة ابنه الإمام المهدي عجل الله تعالي فرجه الشريف، فستقوم بشكل أوسع وأكبر، فلا يقاس عهده عليه السلام بأي عهد، ولا يقارَن طوره بأي طور، ودولته وحكومته بأي دولة أو حكومة علي وجه الدنيا كلها، فعهده من أخصب العهود، وحكمه من أمر الحكومات، من حيث العدالة والسعادة، وارتفاع الظلم والجور، والقضاء علي الفقر والمرض والجهل والخوف، و كما تعبر عن ذلك الرواية: (يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً).

ثانياً - التسخير الكوني

اشارة

للإنسانية أهداف كبيرة وغايات عظيمة جداً، تطمح إلي تحقيقها في يوم من الأيام، ما هي هذه الأهداف؟.

ص: 69

نقول باختصار: إن من أهم هذه الأهداف والغايات تسخير عناصر الكون ومكوناته لخدمة الإنسان، فما هو المقصود بالتسخير؟:

(يقال: سخّرته، أي قهرته وذلّلته)(1)، فالتسخير هو التذليل، وتسخير الكون ليس أمراً مستحيلاً؟ أو خارجاً عن قدرة الإمكان بالنسبة للإنسان، بل هو ممكن و مقدور عليه، بل الكون كله إنما وُجِدَ أصلاً كيما يسخّره الإنسان إلي أهدافه الصالحة وغاياته المقدّسة، باعتبار أن عملية التسخير هي من عوامل البناء والإعمار، والتكامل للإنسان والكون والحياة، وقد وردت في القرآن الكريم الكثير من الآيات التي تشير إلي ذلك، بل تؤكد عليه وتدعو إليه، وتندبالإنسان لتحقيقه.

أنواع التسخير

أهم أنواع هذا التسخير المشار إليه ثلاثة:

الأول: التسخير الزماني، قال تعالي : « وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ » . (2)

الثاني: التسخير الفضائي، قال تعالي : « وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّي »(3).

الثالث: التسخير الطبيعي، قال تعالي: « وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ »(4) ، وقال عزّ وجلّ: «اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ »(5).

ص: 70


1- لسان العرب ج4 ص408
2- سورة إبراهيم الآية 33.
3- سورة الزمر الآية 5.
4- سورة إبراهيم الآية 32.
5- سورة الجاثية الأية 12.

وعملية التسخير هذه ليس المقصود منها تذليل الصعاب فقط ، أو فك بعض الرموز والشفرات، وبالتالي رفع الغموض وفتح الأقفال، وإنما المراد من هذا التسخير هدف أكبر من هذا وأعظم، إذ المقصود هو تمام الانتفاع و كامل الاستفادة من مقدرات هذا الكون الكبير، كما يراد منها كذلك، إزالة أو رفع حالة الغربة بين الإنسان والكون، فعندما يستطيع الإنسان أن يقوم بتسخير موارد الكون، تزول عنه غربته، ويشعر بالألفة مع هذا الكون، وذلك لتحول الكون بفضائه و كواكبه، وأرضه وسمائه، و برِّه و بحره، وإنسه وجنّه، ووحشه و حيوانه، و كأنه وطن واحد، ومثال البيت والأسرة الواحدة، فأينما توجه الإنسان يشعر أنه في بيته، وفي منزله، وبين أهله، فلا غربة ولا منفي ولا هجرة، إذ ترتفع الموانع، وتسقط الحجب عن وجه هذا الكون وموجوداته.

التسخير الحقيقي وغير الحقيقي

(الحقيقي: هو عبارة عن تسخير الله سبحانه وتعالي المعاني العقلية الإلهية للإنسان الكامل والولي الواصل، وجعله بقوته الباطنية إياها صوراً روحانية أو أمثلة غيبية موجودة في عالمه العقلي أو نشأته الأخروية، ونقله الأشياء من عالَم الشهادة إلي عالَم الغيب، بانتزاعه الكليات من الجزئيات، وقبضه الأرواح من مواد الأجسام والأشباح.

أما التسخير غير الحقيقي: فهو كتسخير الله عزّ وجلّ وجه الأرض وما فيها للإنسان للحرث والزرع، ومنه التسخير الطبيعي، وهو تسخير جنود القوي ومواضعها للإنسان للتغذية والتنمية، و كتسخير ملكوت

ص: 71

الحواس وملك أعضائها للنفس الإنسانية، وهو تسخير نفساني)(1).

ولهذا التسخير - تسخير الكون، من طبيعة وزمان وأفلاك وأملاك - شرط لن يتم بدونه، وهو الإيمان الكامل والتسليم التام لله ولرسوله ووليّه وخليفته، والمعرفة الكاملة بأسرار هذا الكون، وما يسرّه وما يسوؤه، وما يفرح الكون وما يُغضِبه.

وهذه المعرفة الكاملة، لن تتم إلا في زمان صاحب الزمان، الإمام المهدي المنتظر، صاحب الولاية التكوينية، عجل الله فرجه الشريف.

إن عملية التسخير هذه، تقتضي وجود العالم المطلّع علي هذه النعم، بكل تفاصيلها وقابلياقا للتسخير، وإن هذه الحاجة إلي وجود هذا العالِم الشاهد، تقتضي أن يكون شاهداً موجوداً منذ الوهلة الأولي لخلق هذه النعم، وعالم المسخَّرات(2) .

فتح الفضاء وتأهيل السماء

هل بالإمكان فتح أبواب السماوات؟.

إذا نحن رجعنا إلي القرآن الكريم، سنري أن الجواب عن هذا السؤال سيكون إيجابياً، وبشكل لا يقبل الجدل والنقاش، إلا أن السؤال الأهم في هذا المجال هو: لمن تفتح السماء أبوابها؟.

يقول القرآن الكريم: «إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ

ص: 72


1- المعجم المعين ص 441.
2- الإمامة ذلك الثابت المقدّس ص 188.

السَّمَاءِ »(1).

يطرح القرآن هنا حقيقة هامة، وهي أن عامل التكذيب بالآيات، وعامل الاستكبار، هما المانع الحقيقي لفتح أبواب السماء، كما تخير الآية، وهناك أية أخري تقول: «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَي آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ »(2).

فهذه الآية نراها واضحة الدلالة، في أن الإيمان والتقوي من مفاتيح السماء، وأن التكذيب بالرسل والأنبياء والأولياء، من العوامل المانعة من فتح أبواب السماء، فالإيمان والتقوي إذاً يفتحان أبواب السماء، وعصر الإمام المهدي هو عصر حقيقة الإيمان وحقيقة التقوي، لذلك فإن السماء ستفتح أبوابها في هذا العصر، وهذا ما سوف يتضح لنا أكثر في فصل الخلافة المهدوية.

(عن سورة عن أبي جعفر عليه السلام قال: أما إن ذا القرنين قد خُيِّر السحابين فاختار الذلول، وذُخِر لصاحبكم الصعب، قلت: وما الصعب؟ قال: ما كان من سحاب فيه رعد وصاعقة أو برق، فصاحبكم يركبه، أما إنه سيركب السحاب، ويرقي في الأسباب، أسباب السماوات السبع والأرضين السبع)(3).

ص: 73


1- سورة الأعراف الآية 40.
2- سورة الأعراف الآية 96.
3- بحار الأنوار ج 21 ص495.

تعرّفنا فيما سبق من النقاط علي أمور هامة وضرورية، وهنا أمران لابد أن نشير إليهما قبل الخوض في موضوع آخر.

الأول: ما يعتقده البعض من أن ما قلناه من تجلّي العلم، والتسخير الكوني، وفتح الفضاء وأبواب السماء، هو أمر أشبه بالأحلام منه إلي الواقع، أو بالأفلام العلمية الخيالية، وأنا كذلك أقول، مشاطراً به أصحاب الرأي السابق، ولكن - وكما قلنا سابقاً - إذا كان كل شيء تطمح إليه الإنسانية وتحلم به هو في حدود الإمكان، فهذا دليل علي وجود الحقيقة المهدوية وأصالتها.

وقد يسأل القارئ: هل بالإمكان فعلاً أن يكون العالَم أفضل مما هو عليه الآن؟، وأقول له: نعم، بالإمكان ذلك، وقد يسأل مرة أخري: كيف ذلك؟ وأقول له: هناك قاعدة ننطلق منها لإيضاح هذا الأمر، وهي: "إن الإمكان أعم من الكون"، أي أن إمكان أي شيء هو أوسع من كونه، ونقرب المعني بهذا المثال: لو كنت تمتلك مادة معجونية، وهذه المادة تستطيع أن تصنع بها أي صورة وأي شكل، فإذا صنعت هذه المادة المعجونية صورة كرسي مثلاً، أفلا تستطيع أيضاً أن تصنع منها صورة بيت؟ نعم .. تستطيع، لأن قوة الإمكان في مادة المعجون، أعم وأكبر وأوسع في أي صورة صنع فيها، فبالإمكان أن نصنع بالمعجون بيتاً وسيارة و حيواناً مجسماً وأي شيء آخر، فإذا نحن جعلنا من هذا المعجون صورة السيارة، فالمعجون نفسه لا زال يتمتع بقوة الإمكان لأن يتحول إلي أي شكل آخر وصورة أخري، هذا هو معين القاعدة، فإمكان كل شيء أعم

ص: 74

من كونه.

فإذا كان السؤال: هل بالإمكان أن يكون العالم والوجود، أفضل مما كان عليه، أو مما هو عليه الآن بملايين المرات والدرجات؟ سأقول: نعم، بالإمكان ذلك، وسوف يكون هذا الإمكان كائناً، في زمن ظهور الإمام المهدي صاحب الأمر والعصر والزمان عجل الله فرجه وسهل مخرجه.

الثاني: ألم تكن هذه الأهداف، من ضمن رسالات الأنبياء والرسل، مثل نوح وإبراهيم وموسي وعيسي ونبينا محمد عليه و آله وعليهم أفضل الصلاة وأزكي السلام؟

والجواب: نعم، لقد كانت هذه الأهداف من ضمن رسالات الأنبياء جميعاً، ومن ضمن طموحاتهم، وكانوا يحملوها إلي أممهم وأقوامهم، ولقد جاهدوا كي تصل أقوامهم إلي هذه الأهداف، وعلي الأخص منهم أولوا العزم من الرسل، ولكن الذي جري وحصل، أن هؤلاء الأقوام قد جابهوا أنبياء هم ورسلهم بالرفض، وواجهوهم بالتكذيب والسخرية، لأنهم لم يؤمنوا بهم ، ولم يصدقوا برسالاتهم، أو أن مصالح زعمائهم ومتنفذيهم قد حالت بين هؤلاء الأقوام ورسلهم، ومن آمن منهم آمن ببعض وشكك أو كفر بالبعض الآخر، وما آمن بهم إيماناً صحيحاً إلا القليل القليل، فما كان أمام هؤلاء الأنبياء إلا أن يبشروا بيوم الدين، ويوم الدين هو اليوم الذي يظهر فيه الإسلام علي الدين كله ولو كره الكافرون والمشركون، وهو يوم ظهور الإمام المهدي المنتظر، وليس هو اليوم الآخر، يوم تقوم القيامة كما يتصور البعض، إن يوم الدين يختلف عن اليوم الآخر بحسب

ص: 75

التحقيق في ذلك، إن يوم ظهور الدين يكون في آخر الزمان، ويتحقق علي يد خاتم الولاية الإلهية والخلافة الربانية، الإمام المهدي المنتظر عجل الله تعالي فرجه الشريف.

لماذا المهدي دون سواه؟

في الجواب علي هذا السؤال، نقدم مجموعة من الأمور:

الأمر الأول: أن المهدي عليه السلام هو واسطة الفيض الإلهي..

فلقد صرحت بعض الروايات والأحاديث، أن النبي صلي الله عليه وآله وسلم، مع أهل بيته الطاهرين عليهم السلام، (هم الوسائط في إيصال الفيوضات الإلهية إلي سائر المخلوقات، وإليه أشير في دعاء الندبة: "أين السبب المتصل بين أهل الأرض والسماء؟")(1).

كل ما في هذا الوجود هو عبارة عن الفيض الإلهي، وهو إيجاد من الله وخلق منه، ولكي يصل هذا الفيض من المطلق إلي المحدود، لا بد من واسطة نظراً لعجز المحدود عن التلقي من المطلق، وهذه الواسطة لا بد أن يكون لها وجهان: وجه إلي جهة المطلق، بمعني الوصول إلي مرتبة العبودية الخالصة، والتحلّي بكمال الصفات الإلهية، ووجه إلي جهة المحدود، وهو التنزل إلي المراتب البشرية، وهذا ما تشير إليه بعض الآيات، من مثل قوله تعالي : ( «قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَي إِلَيَّ »(2) ، وقوله تعالي: «وَمَا

ص: 76


1- مكيال المكارم ج1 ص 76.
2- سورة الكهف الآية 110، سورة فصلت الآية 6.

أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ »(1).

وعلّة ذلك، تنزّه الذات الإلهية عن المجانسة والمشاكلة للمخلوقين من جهة، وعدم قدرة المخلوق المحدود علي التلقي من الخالق المطلق من جهة ثانية، ما لم تكن هناك واسطة تمتاز بصفتين:

الأولي - القدرة علي التلقي من الله سبحانه وتعالي.

والثانية - القدرة علي الإيصال إلي الخلق.

ولا يوجد من يتمتع بهاتين الصفتين سوي النبي محمد صلي الله عليه وآله وسلم بالذات، وأهل بيته عليهم السلام بالتبع، لأن محمداً صلي الله عليه وآله وسلم هو الجوهر الأول، وهذا من خصائصه، (والجوهر الأول يقوم بأمرين: الأول أنه يقبل الفيض من الله، والثاني أنه يوصله إلي خلقه، وإذا قيل أن محمداً صلي الله عليه وآله وسلم يقوم بأمرين، يستقبل الفيض من الله تعالي ويوصله إلي خلقه، فهو صحيح، لأنه الجوهر الأول)(2).

الأمر الثاني: المهدي عليه السلام هو مظهر الأسماء والصفات الإلهية.

فلله سبحانه وتعالي أسماء وصفات، و النبي محمد صلي الله عليه وآله وسلم هو مظهر هذه الأسماء والصفات الإلهية، وكذلك أهل البيت عليهم السلام، والإمام المهدي بهذا الاعتبار، يكون المظهر كذلك لهذه الأسماء والصفات،فمن أسماء الله "القدير"، ومن صفاته "القدرة"، ومن أسمائه " الرحيم"، ومن صفاته "الرحمة" ... إلخ.

ص: 77


1- سورة الأنبياء الآية 7.
2- حقيقة الإمامة ص 12 .

وعندما تسمع أمير المؤمنين الإمام علياً عليه السلام يقول: (أنا عين الله، وأنا جنب الله)، فهو بهذا اللحاظ لا يقصد التجسيم، وهو إمام الموحّدين، بل يقول ذلك، لأنه من أكمل وأكبر المظاهر لهذه الصفات والأسماء، بعد رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم، وهو لا يعني بالعين والجنب الجوارح والتجسيم، وإنما الآثار والمظاهر، وكما يقول الميرزا النائيني قدس سره: (وهذه المرتبة مختصة بهم عليهم السلام، وليست قابلة للإعطاء إلي غيرهم، لكونها من مقتضيات ذواتهم النورية، ونفوسهم المقدّسة)(1).

عن جابر الجعفي عن الباقر عليه السلام أنه قال: (إن الله أقدرَنا علي ما نريد، فلو أردنا أن نسوق الأرض بأزمَّتها لسقناها)(2)، وقال مولانا الباقر عليه السلام لجابر : ( عليك بالبيان والمعاني ) فقال جابر: وما البيان والمعاني: قال عليه السلام: (أما البيان، فهو أن تعرف أن الله واحد، ليس كمثله شيء، فتعبده ولا تشرك به شيئاً، وأما المعاني، فنحن معانيه ونحن علمه)(3).

(عن أبي سعيد الخدري قال: بينما راعٍ يرعي بالحَرّة إذ عرض ذئب الشاة من شياهه، فحال الراعي بين الذئب وبين الشاة، فأقعي الذئب علي ذنبه ثم قال للراعي: ألا تتقي الله تعالي تحول بيني وبين رزق ساقه الله إلي؟

ص: 78


1- المظاهر الإلهية ج 1 ص 378.
2- المصدر السابق.
3- كشف الحق ص 56.

فقال الراعي: العجب من الذئب يتكلم بكلام الإنس!، فقال الذئب: ألا أحدثك بأعجب من ذلك؟ رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم بين الحرّتين، يحدّث الناس بأنباء ما قد سبق، فساق الراعي غنمه حتي قدم المدينة، فدخل علي النبي صلي الله عليه وآله وسلم، فحدّث بحديث الذئب، فقال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: صدق صدق، ألا إنه من أشراط الساعة كلام السباع للإنس، والذي نفسي بيده، لا تقوم الساعة حتي تكلم السباع الإنس، ويكلم الرجل شراك نعله وعذبة سوطه ويخبره فخذه بما أحدث أهله من بعده)(1).

الأمر الثالث: المهدي هو مجمع كمالات الأنبياء والأوصياء.

ونقصد بذلك: أن جميع ما تمتع به الأنبياء من مراتب كمالية، يعطي للإمام مثلها، سواء المراتب العلمية أو الصفاتية أو الأخلاقية، أو ما كان منهم من معاجز و كرامات، فقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: ( ما من معجزة من معجزات الأنبياء والأوصياء، إلا ويظهر الله تبارك وتعالي مثلها في يد قائمنا، لإتمام الحجة علي الأعداء)(2).

ويدل عليه أيضاً، ما رواه المجلسي عن أبي عبد الله عليه السلام، في رواية المفضل رضي الله عنه، قال: (وسيدنا القائم مسندٌ ظهره إلي الكعبة، ويقول: يا معشر الخلائق، ألا ومن أراد أن ينظر إلي آدم وشيث، فها أنذا آدم و شيث، ألا ومن أراد أن ينظر إلي إبراهيم وإسماعيل، فها أنذا إبراهيم

ص: 79


1- الخصائص الكبري ج 2 ص 61.
2- مكيال المكارم ج 1 ص 225.

وإسماعيل، ألا ومن أراد أن ينظر إلي موسي ويوشع، فها أنذا موسي ويوشع، ألا ومن أراد أن ينظر إلي عيسي و شمعون، فها أنذا عيسي و شمعون، ألا ومن أراد أن ينظر إلي محمد صلي الله عليه وآله وسلم وأمير المومنين عليه السلام، فها أنذا محمد وأمير المؤمنين، ألا ومن أراد أن ينظر إلي الحسن والحسين عليهما السلام، فها أنذا الحسن والحسين، ألا ومن أراد أن ينظر إلي الأئمة من ولد الحسين عليهم السلام، فها أنذا الأئمة من ولد الحسين، أجيبوا إلي مسألتي، فإني أنبئكم بما نبّئتم به وما لم تنبّأوا به)(1).

إن مهمة إيصال الموجودات إلي كمالها وغاياتها، لا تتم إلا بعد أن ينكشف البعد الغيبي لهذه الموجودات بالنسبة للإنسان، وعندما ينكشف هذا الحجاب، سيستطيع الإنسان أن يتعايش مع مفردات الكون ومراتبه العالية منها والسافلة، كما لو كان يتعايش مع بني جلدته ونوعه، فيحدّث هذه الموجودات و تحدّثه، ويخبرها و تخبره، ويُسِرُّ ها وتُسِرُّ إليه، بما في ذلك الحيوان والنبات والجماد.

جاء في الرواية عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: (والذي نفسي بيده لا تقوم الساعة حتي تكلم السباع الإنس، وحتي تكلم الرجل عذبة سوطه وشراك نعله، ويخبره فخذه بما أحدث أهله)(2).

ص: 80


1- بحار الأنوار ج 21 ص 547 ، مكيال المكارم ج 1 ص 225.
2- ينابيع المودة ج3 ص 87.

وهذه الرواية ناظرة إلي: «يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ(1) » ، وذلك يوم الظهور المهدوي.

لماذا يكون للإمام المهدي عجل الله تعالي فرجه هذا التأثير والدور

دون غيره؟

إن ذلك عائد لعدة أمور:

1- لأن سعة وجود الإمام المهدي عليه السلام أكبر من سعة غيره، بما في ذلك الأنبياء، باستثناء جده رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم، ومن في حكمه من أهل البيت عليهم السلام.

2- وصول عالم الإمكان من الكائنات والموجودات -، إلي القابلية والاستعداد لتلقي هذا التغير الجذري، والانقلاب العظيم لكل عالم الإمكان.

3- لأنه يملك من المفاتيح العلمية والمعرفية المعبر عنها في لسان الروايات ب "الأحرف"، أكثر مما يملك غيره من الأنبياء، باستثناء جده صلي الله عليه وآله وسلم، ومن في حكمه من أهل البيت عليهم السلام.

ولا عجب ولا غرابة أن نسمع وأن نقرأ في بعض كتب المفكرين والمثقفين، أن الإنسان يسعي بقوة ويعمل جاهداً علي أنسنة الطبيعة، أي إيصال الطبيعة إلي مرتبة قريبة من مرتبة الإنسانية، وهذا مما يؤكد صحة الروايات الواردة في هذا المضمار، ولكن الأمر الذي غاب عن ذهن هؤلاء المفكرين والمثقفين، أن هذا المستوي العالي من الرقي والحضارة والتقدم،

ص: 81


1- سورة إبراهيم الآية 48.

لا يكون إلا بإيصال هذا الكون بما فيه، إلي كماله المنشود، الذي خلق من أجله، ولا يقدر علي تحقيق هذا الدور العظيم، إلا من بيده مقاليد الكون، جامعة الكمال، وواسطة الفيض، و مظهر الأسماء والصفات الإلهية، وليس ذلك إلا لكمال الوجود، الإمام المهدي عجل الله تعالي فرجه الشريف.

ولا بأس أن أشير إلي هذه القيمة لما فيها من فائدة:

( حكي أن إبراهيم بن أدهم قال: مررت براعي غنم فقلت له: هل عندك شربة من ماء أو من لبن؟ قال: نعم، أيهما أحب إليك؟ قلت: الماء، فضرب بعصاه حجراً صلداً لا صدع فيه، فانبجس الماء فإذا هو أبرد من الثلج، وأحلي من العسل، فبقيت متعجباً، فقال الراعي: لا تتعجب، فإن العبد إذا أطاع مولاه أطاعه كل شيء)(1).

( ومن يشك في القائم المهدي الذي يبدل الأرض غير الأرض؟... إن القائم المهدي من نسل علي، أشبه الناس بعيسي بن مريم خَلقاً وخُلُقاً وسيماءً وهيئة، يعطيه الله عزّ وجلّ ما أعطي الأنبياء، ويزيده ويفضله)(2).

وفي القرآن الكريم نماذج من الآيات، صريحة في دلالتها وواضحة في معناها، تطرح مسألة التعايش علي نطاق الموجودات، وبناء العلاقة مع المخلوقات الأخري.

من هذه النماذج القرآنية علي سبيل المثال، قوله تعالي في قصةالنبي سليمان عليه السلام: «وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ

ص: 82


1- مكيال المكارم ج 1 ص 402.
2- بحار الأنوار ج 21 ص 434.

فَهُمْ يُوزَعُونَ »(1) ، و «حَتَّي إِذَا أَتَوْا عَلَي وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ »، فتبسم ضاحكاً من قولها وقال ربِّ أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليً وعلي والديّ، وأن أعمل صالحاً ترضاه، وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين، وتفقّد الطير فقال ما لي لا أري الهدهد أم كان من الغائبين، فمكث غير بعيد، فقال: «فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ »(2) .

وقبل هذه الآيات جاء قوله تعالي : «وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ »(3).

ونستفيد من قصة النبي سليمان عليه السلام، أن الخلافة الإلهية إذا هي بسطت أجنحتها في الأرض، ودانت لها جميع الموجودات بالانقياد والاتباع والطاعة والإيمان، تصل هذه الموجودات إلي هذه الرتبة الوجودية وتصعد إلي المستوي المطلوب منها، فيكون بينها التبادل والتحاور والتشاور، كما وقع ذلك في خلافة النبي سليمان عليه السلام.

ولعل البعض يقول: إن هذا الأمر كان مخصوصاً بالنبي سليمان ولا يجري لغيره، ونجيب أن الأمر ليس كذلك، وأنه لم يكن خاصاً بالنبي سليمان لشخصه وإنما لخلافته، لذلك أطاعه كل شيء، و سُخِّر له كل

ص: 83


1- سورة النمل الآية 17.
2- سورة النمل الآيات 18-22.
3- سورة النمل الآية 16.

شيء في مملكته، بما في ذلك الريح، قال تعالي : «وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ »(1)، وقال: «وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ »(2) ، وقال عز وجل: «فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ »(3).

إذا .. يستطيع الإنسان أن يسخّر له كل طاقات و موارد هذا الكون، ويكون سيّداً يأمر وينهي، ولكن ذلك كله مشروط بالعبودية لله سبحانه بكل حقائقها، ومن حقائق العبودية، الطاعة لمن أمرنا الله تعالي بطاعتهم ومحبتهم، لأهم صفوة الخلق، وخير البشر، وهم: خاتم الأنبياء والرسل محمّدٌ صلي الله عليه وآله وسلم، وآل بيته الكرام عليهم السلام، أما إذا ما عصي وتكبّر وتجبّر وكفر، فستنقلب كل هذه الطاقات والموارد إلي سلاح مدمِّرٍ، ومزمجرٍ في وجه الإنسان.

إن القرآن الكريم، كما ذكر آيات التسخير، ذكر كذلك آيات التدمير، ومن هذه الآيات:

«وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ »(4)، «وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ »(5) ..

إن كل الإنجازات العظيمة، التي كانت للأنبياء جميعاً، من الانفتاح علي جميع الموجودات من جنِّ وطير ووحش و حيوان وحشرات، وتسخير

ص: 84


1- سورة الأنبياء الآية 8.
2- سورة سبأ الآية 12.
3- سورة ص الآية 36.
4- سورة الذاريات الآية 41.
5- سورة البقرة الآية 50.

الرياح والبحار والجبال، لا تعدُّ إلا إنجازاً صغيراً وقليلاً، إذا ما قيست بإنجازات الخلافة المهدوية، لأن الإمام المهدي عجل الله فرجه، يأتي بجميع الحروف التي تمثل حقائق العلوم، ويُسخّر له ما لا يسخّر لغيره من القري الغامضة والغيبية، كل ذلك لتحقيق الخلافة الإلهية، وبسطها في أرجاء الوجود كله، من الملك إلي الملكوت، ومن عالم الشهادة إلي عالَم الغيب.

ص: 85

ص: 86

الفصل الرابع : المهدي والخلافة الإلهية

اشارة

ص: 87

ص: 88

ما معني الخلافة؟

(استُخلِف فلانٌ من فلان: جعله مكانه)(1) .

و (الخليفة: الذي يُستخلَف من قبله، والجمع خلائف)(2).

و (الخلافة: الإمارة)(3).

و (الخليفة: السلطان الأعظم)(4).

شكلت مسألة الخلافة مفصلاً هاماً في التاريخ الإسلامي، واعتبرت النقطة الجوهرية والأكثر حساسية، في إثارة الصراع والفتن بين الفرق الإسلامية، بعد وفاة النبي صلي الله عليه وآله وسلم.

وقد افترق المسلمون في مسألة من يخلف النبي صلي الله عليه وآله وسلم، وما هي شروط الخليفة؟.

- هل هي بالنص كما يذهب الإمامية؟.

- أم هي بالشوري كما ذهب أهل السنة؟ .

- هل يشترط فيها العصمة كما تقول الإمامية؟.

- أم لا تعتبر فيها العصمة كما يقول أهل السنة؟.

- هل يجوز تقديم المفضول مع وجود الفاضل كما ذهب المعتزلة؟.

ص: 89


1- لسان العرب ج 9 ص 101.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق ص 102.
4- المصدر السابق.

وهكذا حلٌ الخلاف ووقع الافتراق، مع أن من أعظم أهداف الخلافة هي الاجتماع، ومن أهم غاياتها توحيد الأمة ورص الصفوف حول قيادة واحدة، وبهذا يكون المجتمع الإسلامي كله قلباً واحداً ونفساً واحدة.

وقد اختلف المسلمون أيضاً في مهام الخلافة وأهدافها ومسؤولياتمان :

- فنظر البعض إلي الخلافة علي أنها مسؤولة عن بيت المال، وإقامة الحدود، وأخذ الزكاة، وحرب المرتدين، وبسبب هذا التصور القاصر لمقام الخلافة جَنوا علي الخلافة، وأنزلوها من حقيقتها العالية ومقامها الرفيع، إلي مستويً لا يليق بها.

- وهناك من نظر إلي الخلافة علي أنها الظل الإلهي بين الخلق، والمثال الرباني في الأرض والسماء.

تصوران أساسيان لمقام الخلافة:

التصور الأول: أن الخلافة شأن من شؤون البشر .

التصور الثاني: أنها شأن من الشؤون الإلهية، أي أوسع من كونها مسؤولة عن بيت المال وإقامة الحدود وغير ذلك، بل هي ظل الله في عالم الإمكان بكل مراتبه و تعيناته وحقائقه.

وهذان التصوران هما سبب الاختلاف الواقع بين الفرق الإسلامية، فالفريق الذي قال بالشوري وعدم العصمة وعدم الأعلمية، منطلق من التصور الأول، التصور الذي يعتبر الخلافة شأناً من شؤون البشر، والذي ذهب إلي شرط العصمة ووجوب النص والأعلمية والأفضلية، ذهب إلي التصور الثاني، وهو التصور الإلهي للخلافة.

ص: 90

وقبل الخوض في الخلافة الإلهية، أنقل هذا الحوار:

(قال أبو الحسن الرِّفا لابن رامين الفقيه: لما خرج النبي صلي الله عليه و آله و سلم من المدينة، أما استخلف عليها أحداً ؟ قال بلي استخلف علياً، قال: وكيف لم يقل لأهل المدينة اختاروا فإنكم لا تجتمعون علي الضلال؟ قال: خاف عليهم الخلف والفتنة، قال: فلو وقع بينهم فساد لأصلحه عند عودته، قال : هذا أوثق، قال: أما استخلف أحداً بعد موته؟ قال: لا، قال : فموته أعظم من سفره، فكيف أمن علي الأمة بعد موته ما خافه في سفره وهو حيٌّ عليهم؟ فقطعه)(1).

ماذا تعني الخلافة الإلهية؟

من خلال الآيات القرآنية، يمكننا أن نتعرف علي بعض معاني الخلافة الإلهية، من هذه الآيات قوله تعالي: «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً »(2) ، وقوله تعالي : «يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ»(3) .

ماذا تعطي هذه الآيات؟:

إنها تعطي عدة قواعد مهمة:

1- أن الخلافة جعل إلهي واختيارٌ رباني.

2- أن الخلافة أعطيت للإنسان الكامل الأفضل الأعلم والأتقي مثل

ص: 91


1- بحار الأنوار ج 23 ص 75.
2- سورة البقرة الآية 30.
3- سورة ص الآية 26.

الأنبياء.

3- أن الخلافة من المظاهر الإلهية في الأرض.

4- أن الخلافة مقام دون مقام الخالق وفوق مقام المخلوق.

5- أنها مرتبة مقدّسة لا يتقمّصها إلا الأقدس، الذي لم يتدنّس

بالشرك والكفر ولو طرفة عين.

ومن هنا، تعلم حجم الكارثة، والخطأ الفادح، الذي وقع فيه الناس بعد وفاة النبي صلي الله عليه وآله وسلم، حيث أطلقوا علي من جاء بعد النبي ب"خليفة الله" و "خليفة رسول الله"، ودخل ضمن هذا الإطار الجميل، من لا يستحقون هذا المقام الرفيع، كخلفاء بني أمية و خلفاء بني العباس.

(إن لازمة الخلافة الإلهية هي في توفر الكمالات المستخلَفة في الإنسان الكامل، الذي هو خليفة الله باتساع وجوده)(1)، ( ولذا فإن دائرة الخلافة الإلهية لا تنحصر بالأرض، بل تمتد لتشمل المخلوقات السماوية بالرغم من حضوره الجسماني في الأرض)(2).

إن مساوئ الخلافة البشرية علي حسب التصور الأول، ليست بالأمر الخفي ولا المستور، بل هي من أوضح الواضحات لمن يقرأ تاريخ هؤلاء الخلفاء، وعلي الخصوص بن أمية وبني العباس، وقد أُخضع هؤلاء الخلفاء الامتحانات صعبة واختبارات حرجة من قبل اليهود والنصاري، باعتبار

ص: 92


1- الإمام الخميني قدس سره، ثورة العشق الإلهي ص 334.
2- المصدر السابق ص 337.

وعي هاتين الطائفتين بالصفات المطلوبة، لخلافة النبي صلي الله عليه وآله وسلم، فتجد أحبار هاتين الطائفتين عندما ينظرون إلي هؤلاء الخلفاء، لا يجدون فيهم الصفات المذكورة في كتبهم، والتي منها الصفات الجسمانية فينفون كونهم خلفاء النبي صلي الله عليه وآله وسلم، وتراهم يسألون هذا الخليفة أو ذاك مسائل من الدين، فلا يجدون عندهم جواباً، وما ذلك إلا لأن الخلافة شأن من الشؤون الإلهية، وتحتاج إلي مقومات العلم والمعرفة والصفات

النفسانية والمقامات النورانية، وهذا الخليفة المزعوم الذي أمامهم لا يمتلك أدني مستويٌ من تلك المقومات والصفات، فترجع هذه الوفود متعجبةً وهي تقول: هذا هو خليفة نبيكم؟ فيقول الناس: نعم، ولو قالوا هذا خليفة الناس، لما كانت هناك أي مشكلة من الأساس.

إن الخلافة الإلهية هي الحلقة التي تربط المخلوقين بالخالق، وتأخذهم إلي ما فيه خير الدنيا والآخرة، وربح العالَمَين وتطابق الكونين، ( لأن الخلافة هي الاقتداء به تعالي - علي الطاقة البشرية - في تحرّي الأفعال الإلهية)(1).

ص: 93


1- الذريعة إلي مكارم الشريعة ص 29 .

الإمام المهدي والخلافة الإلهية

اشارة

نريد أن نتحدّث عن التغيرات الجذرية والعظيمة، في خلافة الإمام

المهدي عليه السلام، والتي سوف تدور حول محورين أساسيين وهما:

- التغيّر الآفاقي.

- التغير الأنفُسي.

أولاً- التغيّر الآفاقي

اشارة

وحديثنا عن التغير الآفاقي سيكون أيضاً في محورين:

أولهما: المحور الكوني، وهو المتمثل في التغيرات الفلكية، والحوادث الفضائية، وهذا النوع من التغيرات له أهميته في إحياء الأرض، وعمارة الكون وبناء الفضاء، كما ذهب إليه بعض المحققين.

وثانيهما: محور الطبيعة، وهو المتمثل بتغيرات الأرض بشكل خاص.

ولئن كانت للتغيرات الكونية تأثيرها المباشر علي الأرض أيضاً، من حيث صلاحها وفسادها، إلا أنها تبقي حوادث وتغيرات خارجة عن الأرض فيما التغيرات الطبيعية متصلة بها بشكل مباشر، كالتغيرات المناخية والمائية والهوائية والزراعية والترابية .. إلخ، قال تعالي: ( «يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ »(1) .

وتتم هذه التغيرات ضمن عملية تبديل كامل وشامل وعام، بحيث

ص: 94


1- سورة إبراهيم الآية 48.

يقول الناس: هذه الأرض هي غير الأرض التي كنا نعرف، وذلك لأن الأرض سوف تلبس في خلافة المهدي ثوباً جديداً جميلاً ليس له مثيل ولانظير.

وفي الواقع، فإن كل حدث من الأحداث العظيمة لا بد أن تصحبه تغيرات فلكية وفضائية وأرضية، مثل ولادة نبي من الأنبياء، أو نزول وحي من الله، وهناك دراسة قام بها بعض علماء الفلك، لدراسة بعض الظواهر الفلكية المصاحبة لبعض الأحداث الماضية، فعلي سبيل المثال، وفيما يتعلق بحادثة نزول الوحي علي النبي محمد صلي الله عليه وآله وسلم، فقد (قام باحث بمساعدة برامج الحواسب الآلية "الكمبيوتر" باسترجاع حركة الأجرام السماوية في تلك الليلة، ليري إن كانت هناك ظواهر فلكية مميّزة صاحبت فترة نزول الوحي علي نبي الإسلام، واتّضح له فعلاً وجود بانوراما مدهشة في سماء مكة، قبيل فجر يوم 610/7/23 م، الذي وافق يوم 26 أو 27 من شهر رمضان، وأهم مظاهر هذه البانوراما، اقتران الهلال لحظة مولده بالزُّهرة، - وهو حدث نادر جداً في تاريخ الفلك-، وكذلك ظهور الجوزاء - الذي يطلق العرب عليه اسم "الجبّار" - خارجاً من فلك الشمس، رمزاً للعظمة والقوة، يضاف إلي ذلك حدوث تركيبة نادرة لا يكاد يكون لها مثيل، بين أوضاع الشمس التي كانت متعامدة علي كعبة مكّة والمرّيخ والشعري والزُّهرة)(1).

وكذلك ستكون هناك تحولات كونية وفلكية واسعة، وقت ظهور

ص: 95


1- المهدي المنتظر حقيقة أم خرافة ص 478.

الإمام المهدي عليه السلام، منها:

- خسوف تام للقمر .

- وكسوف للشمس.

- وطلوع الشمس من المغرب.

- وريح صفراء تدوم ثلاثة أيام.

- وخروج النجم المذنِّب.

وإن (هذه التحولات ضرورية لإحياء الأرض بعد موتها، وإن أرزاق العباد و خيرات الأرض وبركات السماء، مرتبطة علمياً بهذه التطورات، وخصوصاً بحركة الرياح، والشيء الآخر، أن قانون الاستخلاف يحتّم إحداث تغيّر جوهري في الطبيعة، والطور المهدوي هو في الواقع الطور الذي لأجله خلقت السماوات والأرض، ولذلك فإن أعظم تغيير تاريخي لطبيعة الأرض سوف يكون في بداية هذا الطور)(1).

علي ضوء الروايات
اشارة

1)عن أبي جعفر عليه السلام أنه قال: (آيتان بين يدي هذا الأمر: خسوف القمر و كسوف الشمس لخمسة عشرة، ولم يكن ذلك منذ هبط آدم إلي الأرض)(2)، وعن أبي عبد الله عليه السلام، قال: (تنكسف الشمس لخمس مضين من شهر رمضان قبل قيام القائم)(3).

ص: 96


1- الطور المهدري ص 218-219.
2- بحار الأنوار ج 21 ص420.
3- المصدر السابق ص 421.

2) ذكر القائم عند أبي عبد الله عليه السلام فقال: (أني يكون ذلك ولم يستدر الفلك، حتي يقال مات أو هلك، في أي وادٍ سلك)(1).

3) قال أبو جعفر عليه السلام: ( لا يقوم القائم، إلا علي خوف شديد من الناس، وزلازل وفتنة وبلاء يصيب الناس، وطاعون قبل ذلك،وسيف قاطع بين العرب، واختلاف شديد بين الناس، وتشتيت في دينهم، وتغيير في حالهم، حتي يتمني المتمني الموت صباحاً ومساء، من عِظَم مايري من كَلَب الناس وأكلهم بعضهم بعضاً)(2).

الشتاء الفضائي والشتاء النوري

لقد توصل العلماء مؤخّراً إلي تفسير غياب الديناصورات عن سطح الأرض، فمنذ ملايين السنين كانت الديناصورات الجبارة تسيطر علي الأرض ... وخلال فترة قصيرة نسبياً من عمر الأرض المديد اختفت معها كل النباتات الضخمة، ولدي دراسة الحفريات دراسة مستفيضة، لاحظ العلماء أن طبقة من التراب الناعم المتجانس، يبلغ سمكها ثلاثة سنتيمترات تغطي بقايا هذه الحيوانات الضخمة، وأن آخر الدينا صورات اختفي بعدها.

وكان التفسير الذي توصل إليه العلماء أخيراً: أن الأرض قد تعرضت في تلك الفترة القديمة من تاريخها، إلي قصف متتابع من النيازك الهائلة علي نطاق واسع، وأن هذا القصف قد أدي إلي تصاعد كميات

ص: 97


1- المصدر السابق ص 435.
2- المصدر السابق ص 437.

كبيرة من الغبار إلي طبقات الجو العليا، وأن هذا الغبار قد حجب ضوء الشمس ودِفأها عن سطح الأرض فترة طويلة يصعب تحديدها، إلا أن هذا الحجب كان كافياً لحدوث شتاء بارد و طويل، ماتت خلاله مساحات ضخمة من الغابات ونباتاتها، ومن ثم قضي علي الحيوانات التي تتغذي عليها، وفي فترة المجاعة الشاملة، يتم القضاء علي الحيوانات الكبيرة التي تحتاج إلي كميات كبيرة من الغذاء، كالدينا صورات التي غابت من الوجود بسبب هذا الشتاء الفضائي، وقد ترسب الغبار تدريجياً بفعل جاذبية الأرض، وغطي بقايا الحيوانات والنباتات الميتة.

وهذا ما سوف يحصل إذا قامت الحرب النووية بين الدول، سيسيطر علي الأرض شتاء شبيه بهذا الشتاء، ولكنه لن يكون شتاء فضائياً، بل سيكون شتاء نووياً، وستغمر الأرضَ الرياحُ، وعواصفُ رملية ورعدية وثلجية هائلة، إن الشتاء النووي الذي يمكن أن ينتج، سيماثل في شدته وطوله الشتاء الفضائي، الذي يمكن أن ينتج عن استخدام ثلث الاحتياطي العالمي من الأسلحة النووية(1) .

علي ضوء الروايات

1)- (عن سليمان بن خالد قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: قدام القائم عليه السلام موتان، موتً أحمر وموتٌ أبيض، حتي يذهب من كل سبعة خمسة، فالموت الأحمر السيف، والموت الأبيض

ص: 98


1- المهدي المنتظر حقيقة أم خرافة ص 607-609.

الطاعون).(1)

2)-(عن أبي بصير ومحمد بن مسلم قال: سمعنا أبا عبد الله عليه السلام يقول: لا يكون هذا الأمر حتي يذهب ثلثا الناس، فقيل له: فإذا ذهب ثلثا الناس فما يبقي؟ فقال عليه السلام: أما ترضون أن تكونوا الثلث الباقي؟)(2).

3)- (عن البيزنطي عن الرضا عليه السلام أنه قال: قدام هذا الأمر قتلٌ بيوحٌ، قلت: وما البيوح؟ قال: دائمٌ لا يفتر)(3).

ثانياً- التغير الأنفسي

بين الكون والنفس علاقة غامضة، لم تتضح بعد بالنسبة للباحثين في هذا المجال، وكل ما في الأمر أنه تم اكتشاف، أن هناك نوعاً من الارتباط بين هذين العالمين، العالَم الأنفسي والعالَم الكوني بكلا شِقّيه، العلوي بما يحوي من كواكب وأفلاك ومجرّات ونجوم، والسفلي - الطبيعة - بما يحويه من بحار وأنهار وهواء وماء وأشجار وثمار.

فما هي العلاقة بين الكون والنفس؟ ولماذا يتوقف صلاح الكون علي صلاح النفس؟، من الممكن أن هذه العلاقة نظير علاقة النفس بالجسد، والتأثير بين الجانبين واضح، أو نظير علاقة الكهرباء بالمصباح، ولا بد أن يتأمل الإنسان وأن يفكر في متانة هذا الرابط العجيب والمدهش والمحير.

ص: 99


1- بحار الأنوار ج 21 ص 420.
2- المصدر السابق ص 421.
3- المصدر السابق ص 404.

ما هو سر ارتباط الكون بالنفس؟ هذا هو السؤال الذي حيّر العلماء قديماً وحديثاً.

ولقد أشارت آيات القرآن الكريم إلي هذه العلاقة، وذلك في قوله سبحانه وتعالي: «سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّي يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ »(1) ، وقوله سبحانه: «ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَي قَوْمٍ حَتَّي يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ »(2) .

وكذلك فقد أشار النبي نوح عليه السلام إلي هذه العلاقة فيما حكاه عنه القرآن الكريم: «فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا ،يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا ،وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ ،وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا »(3) .

نستنتج من هذه الآيات الكريمة، أن البشرية لم تصل إلي هذا الوضع الخانق علي جميع الأصعدة والمجالات، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وهذا الفساد في الكون - الآفاق والأرض "الطبيعة"، إلا من جهة مرض النفوس، إلا أن هذا المرض سيزول وينتهي في دولة الإمام المهدي عليه السلام وخلافته، وستشفي جميع النفوس من عللها وأمراضها، وتصفو من ظلمتها و كدرتها.

ومن انعكاسات هذا الشفاء، ما سيجري من التغير الظاهري، و ما

ص: 100


1- سورة فصلت الآية 53.
2- سورة الأنفال الآية 53.
3- سورة نوح الآيات 10-12.

سيطراً علي الحواس والقوي، والطاقات والقدرات.

قال الإمام الصادق عليه السلام: ( وتزول كل عاهة عن معتقدي الحق من شيعة المهدي، فيعرفون عند ذلك ظهوره بمكّة، فيتوجهون النصرته، تطوي لهم الأرض، ويذلِّل لهم كل صعب)(1).

وعن حكيم بن سعيد قال: ( سمعت علياً عليه السلام يقول: إن أصحاب القائم شباب لا كهل فيهم، إلا كالكحل في العين أو كالملح في الزاد، وأقل الزادالملح)(2).

وعن أبي جعفر الباقر عليه السلام، قال: ( إنه لو كان ذلك، أعطي الرجل منكم قوة أربعين رجلاً، وجعلت قلوبكم كزبر الحديد، لو قذفتم بها الجبال فلقتها)(3).

وعن أبي عبد الله عليه السلام، أنه قال: ( إن قائمنا إذا قام، مَدَّ الله لشيعتنا في أسماعهم وأبصارهم، حتي لا يكون بينهم وبين القائم بريد، يكلمهم فيسمعون، وينظرون إليه وهو في مكانه)(4).

ومن المحتمل أن يقلل البعض من أهمية هذا الأمر، أو يصغّر من شأن هذا الدور - الدور النفسي وتأثيره في صفة الصلاح، بالنسبة إلي الذات وعملية الإصلاح الاجتماعي، ولكن الدراسات العلمية الحديثة أثبتت بما

ص: 101


1- المهدي المنتظر حقيقة أم خرافة ص 664.
2- بحار الأنوار ج 21 ص 504.
3- مكيال المكارم ج 1 ص 203.
4- مكيال المكارم ج 1 ص 203.

لا يدع طريقاً للشك، وذلك من خلال الطب النفسي، أن أكثر الأمراض التي تصيب البشر، أصلها أمراض من النفس، الأمراض النفسية، والأسباب المتعلقة بالنفس.

وهذا يؤثر بدوره ليس فقط علي المحيط القريب، ويغيّره إلي الأسوأ، مثل التغيّر الذاتي أو الأسري أو الاجتماعي، بل يؤثر حتي في الكون بما فيه، وعلي رأس الأمراض النفسية مرض الخوف، ومرض الشك، ومرض الظن ... والحسد والحقد والأنانية.

(و كلما كانت القيم غريزية، ومعاندة لمنطق الكون وأمور الوجود، ومخالفة للشريعة، ومصرّة علي بتر العلاقة الكونية بالاعتبار الميثاقي، كلما برز نوع خطير من الفساد والانحراف والباطل الميثاقي والسلوكي)(1).

وسوف تتغير كل هذه الظواهر السلبية والمظلمة، وتشهد الأرض والسماء خلافة إلهية، يتحقق فيها الانسجام والتناغم، مع كل مفردات الوجود، و بذلك يسود الصلح جميع أنواع الموجودات في خلافة الإمام المهدي عجل الله فرجه الشريف.

ويتحقق هذا التغيّر، إذا ما أدرك الإنسان أهدافه الوجودية المتعالية، وغاياته السامية والعظيمة، عندها فقط ينكشف له هذا التناغم الفريد بين النفس والكون، والرابطة المتينة بين الآفاق الأنفسية والكونية، وعندها يكون هذا الإدراك هو أولي خطوات التصحيح والتغير، (هذا التغير الذي يشمل مجاري الأنهار، أنواع الثمار، المناخ بصفة عامة، انتهاء الأمراض

ص: 102


1- ما قبل نهاية التاريخ ص 243.

والأسقام والعلل، غياب الآفات الزراعية، تغيّر جذري في طبيعة الكائنات، بما في ذلك الوحوش، موت الهوام الضارّة، والحشرات الفاتكة بالمزروعات،خروج كنوز الأرض، طول مدهش للأعمار، ينتهي في أواخر الطور المهدوي، لأن قوانين الطبيعة تتغيّر بصورة شاملة)(1).

ما هي آليات التغيّر النفسي؟

اشارة

إن آليات هذا التغير النفسي، ستكون عن طريق إيصال النفوس إلي مقامين عاليين، هما:

المقام الأول: التسليم المطلق لله سبحانه

ومظاهر هذا التسليم، هو القبول الكامل والتام لكل مفردات الشرع من أمر ونهي، والقيام بجميع الواجبات والطاعات، من دون أن يكون في النفوس شك ولا ريب، بل يملؤها الاطمئنان، وتغمرها الراحة، ويقودها التسليم.

المقام الثاني : الوصول إلي سعة النفس

أي السعة الوجودية الأنفسية، فإذا قطع الإنسان الأمر الأول، وهو التسليم، وصل إلي مقام السعة الأنفسية، ومن هذه السعة تتقبل النفس جميع التكاليف والأحكام الشرعية والدينية والعبودية، وهذا ه و مقام الكمال أو التكميل.

(عن أبي جعفر عليه السلام أنه قال: إذا قام قائمنا وضع يده علي

ص: 103


1- الطور المهدوي ص 436

رؤوس العباد، فجمع به عقولهم وأكمل به أخلاقهم)(1).

ووضع اليد كناية عن بسط السيطرة والتمكن من الأمر:

( وحقيقة الطاعة: تطبيق العبد أعماله علي أوامر المولي من حيث أنه مولي)(2)، وحقيقة العبودية: كون العبد بتمام لواحقه، ملكاً خالصاً لله تعالي)(3).

ص: 104


1- بحار الأنوار ج 21 ص 506.
2- شرح الأسماء الحسني ص 127.
3- المصدر السابق ص 130.

الفصل الخامس : الإمام المهدي والمقامات الثلاثة

اشارة

ص: 105

ص: 106

مقامات أهل البيت (عليهم السّلام)

يلمس القارئ لسيرة أهل البيت عليهم السلام، والمطّلع علي تاريخهم الشريف، أن ذواتهم النورية امتزجت بها كل الصفات الكمالية، وعجنت بالأسماء الجمالية والحسن، لأنهم أسماء الله ومظاهر صفاته،وقد (ورد عن المعصومين عليهم السلام: نحن الأسماء الحسني، وقال صلي الله عليه وآله وسلم: لا اسم أعظم مني، أنا اسم الله الأعظم)(1).

ومن هذا الجانب، تحدهم قد تميّزوا بالألقاب الكاشفة عن مقاماتهم الكمالية، وأصبحت هذه الألقاب بالنسبة لهم، من الشهرة كأنها نار علي علم، يُعرَفون بها ويخاطَبون بها.

وقد خفيت أسرار بعض هذه الألقاب عن الكثير من الناس، الخواصّ منهم والعوامّ علي حدِّ سواء، ممن اكتفوا بالنظر السطحي، وحاموا حول ظواهر الروايات والأحاديث، ولم يكلّفوا أنفسهم عناء التفكير والتأمل، أو الصبر علي سعة المطالعة والقراءة والبحث.

ونسوق علي سبيل المثال لا الحصر، المقامات والأحوال التالية للنبي صلي الله عليه و آله وسلم، وأهل بيته الأطهار عليهم السلام:

- الرسول صلي الله عليه وآله وسلم، له المقام المحمود، فما حقيقة هذا المقام؟

ص: 107


1- التكوين والتجلّي ص 54.

- الإمام علي عليه السلام: له مقام الولاية، ولا يمكننا أن نعرف

الإمام إلا من خلال مقام الولاية.

- الإمام الحسن عليه السلام: له مقام أنه الزكي، وكريم أهل البيت.

- الإمام الحسين عليه السلام: له مقام أنه سيد الشهداء، ووارث

الأنبياء.

- فاطمة الزهراء عليها السلام، سيدة الأكوان والعالمين بعد أبيها صلي الله عليه و آله وسلم، وبعد بعلها أمير المؤمنين عليه السلام، مقامها "أم أبيها"، فماذا يعني هذا المقام؟، إنه مقام له من الشموخ والرفعة والعلوّ ما تحتار فيه العقول، وتنحسر عن فهمه الألباب، وهناك مقام آخر يعتبر من أعمق مقاماتها عليها السلام، وهو المقام الذي عبّرت عنه رواية (ولولا فاطمة لما خلقتكما)، بل إن معين مقام (أم أبيها) لا يدرَك إلا من خلال هذا المقام.

- وكذلك باقي الأئمة عليهم السلام، فكل ألقابهم تنطوي علي أسرار وحقائق، مثل السجاد والباقر والصادق والكاظم والرضا والجواد والهادي والعسكري.

ولأجل هذا، اجتهد أعداؤهم في إخفاء هذه المقامات، والتلبّس بها، وغاب عن هؤلاء أن هذه الألقاب ليست جوفاء أو فارغة من المحتوي، بل هي حقائق من حقائقهم، وأسرار من أسرارهم، ومقامات من مقاماتهم النورية، وقد اجتهد العباسيون أكثر من غيرهم، في إخفاء هذه الحقائق والأسرار والمقامات، وذلك بإعطاء أنفسهم ألقاباً نورانية، وهم - في

ص: 108

ذواقهم المظلمة - بعيدون عن حقيقة هذه الألقاب بعد المشرق عن المغرب، وبعد الوجود عن العدم، مثل المنصور والرشيد والمهدي والمتوكل والمأمون والأمين والمعتز والمعتمد ... إلخ.

ص: 109

المقامات المهدوية

اشارة

ما هي المقامات التي أعطيت للإمام المهدي عجل الله تعالي فرجه؟.

قبل التطرق إلي مسالة المقامات، نأتي أولاً لبيان بعض أسرار الألقاب المقدّسة وذاته النورية، من هذه الألقاب ثلاثة:

1) - المهدي: سمي بذلك كما جاء في الأخبار، لأنه يهدي إلي "أمر خفيِّ، وفي بعضها إلي "أمرٍ مضلول عنه"، وهذا الأمر الخفي أو المضلول عنه، هي حقائق الدين والقرآن الكريم، بل جاء في الأخبار أنه يأتي بدين جديد و قرآن جديد، علي العرب شديد، وجاء في بعض الروايات: (بدأ الدين غريباً وسيعود غريباً كما بدأ)، أي سيعود بالمهدي، وذلك بعد أن ينكفئ الدين من القلوب والنفوس، وتكون هناك وحشة بين النفوس والدين.

2) - القائم: (روي أنه عليه السلام سمّي القائم لأنه سيقوم بالحق)(1)، ويعتبر القيام والوقوف عند ذكر اسمه، تعظيماً له واحتراماً بدافع العشق له والمحبة من جهة، ومن باب إظهار الاستعداد والجهوزية للقيام معه متي ما قام عليه السلام، يقول الشيخ عباس القمّي قدس سره: (الوقوف تعظيماً لدي سماع اسمه عليه السلام، وخاصة إذا ذكر الاسم المبارك القائم، كما استقرت عليه سيرة أبناء الطائفة الإمامية، ... وهذا يكشف بحد ذاته عن

ص: 110


1- منتهي الآمال ج 2 ص 560.

وجود أصل وأساس لهذا العمل، وقد سُمِع من العديد من العلماء، وأهل الاطلاع، أهم رأوا خبراً في هذا الباب، نقله بعض العلماء، وهو أن العالم المتبحر الجليل السيد عبد الله، سبط المحدّث الجزائري، سئل عن هذا الأمر، وأنه أجاب عنه في بعض تصانيفه، جواباً يفيد أنه رأي خبراً مضمونه أن الاسم المبارك، ذكر يوماً في مجلس الإمام الصادق عليه السلام، فوقف احتراماً له وتعظيماً، وروي أنه لما كان دعبل الخزاعي ينشد قصيدته التائية للإمام الرضا عليه السلام، ووصل إلي هذا البيت:

خروج إمام لا محالة خارجٌ يقوم علي اسم الله والبركات وقف الإمام الرضا عليه السلام علي قدميه وأحني رأسه الشريف إلي الأرض، بعد أن وضع كفّه اليمني علي رأسه، وقال: اللهم عجّل فرجه و مخرجه، وانصرنا به نصراً عزيزاً)(1).

وللإمام المهدي عليه السلام مقامات عظيمة، تعتبر من خصوصياته المقدّسة، من أهمها: صاحب الزمان، صاحب العصر، صاحب الأمر.

وسنشرع ببسط الكلام في معاني هذه المقامات التي يختص بها الإمام، وألفت نظر القارئ قبل ذلك، إلي أن هذه المقامات والألقاب، تعبّر عن رتبٍ وجودية، أي أن "صاحب الزمان" رتبة وجودية للإمام عليه السلام، و"صاحب العصر" رتبة أخري تعطي معني آخر غير معني صاحب الزمان، وكذلك صاحب الأمر، وهكذا.

كما ألفت نظر القارئ من جانب آخر، إلي أن هذه الإطلاقات من

ص: 111


1- منتهي الآمال ج 2 ص 648.

الألقاب، جاءت علي لسان المعصومين، من الرسول صلي الله عليه وآلهوسلم، ومن أهل بيته الأطهار عليهم السلام، مما يجعل لها أكبر الأهمية في عمق معانيها وعظيم حقائقها.

أولاً- مقام "صاحب الزمان"

اشارة

ما معني "صاحب الزمان"؟.

نحن أمام هذا المقام، نجد أنفسنا أمام مفردتين، لا بد من تفكيكهما وتحليل كل مفردة منهما علي حدة:

المفردة الأولي: "صاحب".

والصاحب: المعاشر، وأصحبَ الرجل، واصطحبه: حفظه، يُصحِبُ:

يمنع ويحفظ(1).

( قال المعجم: الصاحب: القائم علي الشيء، والصاحب: مالك الشيء، ولذلك تظهر العداوة بين الأصحاب، لأن غاية الصاحب امتلاك صاحبه، والقيام عليه بالأمر والنهي)(2).

المفردة الثانية: "الزمان".

للناس في الزمان قولان: الأول: قول من أنكر وجوده، والثاني : قول من أثبت وجوده)(3).

(ذهب أرسطو طاليس، وارتضاه الفارابي وابن سينا، إلي أنه مقدار

ص: 112


1- لسان العرب ج 1 ص 603- 605.
2- الطور المهدوي ص 302 .
3- المطالب العالية من العلم الإلهي ج5 ص9.

حركة الفلك الأعظم، وقال الشيخ أبو البركات البغدادي: إنه مقدار امتداد الوجود، وقال آخرون: إنه عبارة عن نفس حركة الفلك الأعظم، وقال آخرون:إنه لا معني للزمان إلا مجرد التوقيت)(1).

و يتضح مما سبق، أنه قد وقع الاختلاف في الزمان، ولكن المعني المتداول له أنه حركة الأفلاك، سواء كانت حركة الأرض حول نفسها بما يحدث عن ذلك من الليل والنهار، أم حركة الأرض حول الشمس، وما ينجم عن ذلك من الفصول الأربعة.

فإذا كان الصاحب هو القائم علي الشيء والمالك له، فمعني صاحب الزمان إذاً، هو القائم علي الزمان والمالك له، وعلي هذا المعني، فإننا إذا فسرنا الزمان بأبسط الأقوال، وهو أنه حركة الأفلاك، وهذه تتبع حركتها لحركة الفلك الأعظم، الذي هو كما (يقول علماء الفلك: إنه في الوقت الذي يتلفظ فيه الإنسان بكلمة واحدة، فإن الفلك الأعظم يكون قد قطع 1732 فرسخاً، ويقول المتشرعة أن الملَك يقطع في أقل من لمح البصر ألف سنة ...)(2) .

إذا علمنا كل ذلك نقول: إن صاحب الزمان هو مالك الزمان، أي مالك حركة الأفلاك، بل هو القائم علي حركة الفلك الأعظم فلا تتحرك الأفلاك إلا بأمره وإرادته، الذي هو أمر الله وإرادته.

والزمان ليس مرتبة واحدة، بل هو مراتب متعددة بتعدد المراتب

ص: 113


1- المصدر السابق ج5 ص 51،وفيه مزيد بيان لمن أراد التوسع في الموضوع.
2- حقيقة الإمامة ص87.

الوجودية للموجودات، وهذا يعني أن زمان الحجر غيره في النبات، وهو غيره في الحيوان، وهو غيره في الإنسان، وهو غيره في الملك، بل يتعدد الزمان كذلك حتي بالنسبة للحقيقة الإنسانية الواحدة، وذلك تبعاً لتعدد المراتب أو الحقائق في الإنسان.

يقول الدكتور مصطفي محمود: (لا شيء يبعث علي الحيرة أكثر من هذه الكلمة المبهمة الغامضة "الزمان"، ما هو الزمان؟ هناك زمان نتداوله في معاملاتنا، ونعبر عنه بالساعة واليوم والشهر، وهناك زمان نفساني داخلي يشعر به كل منا في دخيلة نفسه، الزمان الخارجي الذي نتداوله، زمان مشترك نتحرك فيه كما يتحرك غيرنا، نحن مجرد حادثة من ملايين الحوادث ... وأما الزمان الداخلي فهو زمن خاص لا يقبل القياس، لأنه لا مرجع له سوي صاحبه، وصاحبه يختلف في تقديره، فهو يشعر به شعوراً غير متجانس، لا توجد لحظة فيه تساوي اللحظة الأخري، وهو زمن متصل في ديمومة شعورية، وكأنه حضور أبدي، الماضي يوجد كذكري في الحاضر، والمستقبل يولد كتطلّع وتشوّف في الحاضر، هذا الزمن الذاتي النفسي، غير الزمن الخارجي الموضوعي، الذي هو زمن له معادل موضوعي في نور النهار وانحراف الظل وظلمة الليل وحركات النجوم، وهو الزمن الذي نتفاهم من خلاله، ونتعامل به)(1).

وإن اختلاف الزمان بالنسبة إلي الأشياء تابع لحقائقها، فكلما كان الشيء أو الموجود أقرب إلي مرتبة اللطافة، كان زمانه كذلك، فزمان

ص: 114


1- إينشتاين و النسبية ص 35.

الموجودات التي هي في مرتبة الطبيعة وعوارضها وغواشيها، زمان كثيف وثقيل، ولكن زمان عالم المثال ألطف وأخف، فزمان المجرَّدات - إذا صح الإطلاق - يختلف.

يقول أحد علماء القطيف: (فعلي هذا يكون الزمان كلما عَلا لَطُفَ واتسعت دائرته، وطالت ساعاته ولياليه وأيامه، وشهوره وأعوامه، حتي ينتهي إلي سطحه، وتكون نسبته بجميع محوِّياته إلي ما فوقه، كنسبة النقطة الصغيرة في وسط الدائرة الكبيرة)(1).

ويقول في موقع آخر: (والزمان - في نفسه - حادث ووعاء لمحوِّياته، وشاهدومشهود، وهو من حيث هو ممكن مشخَّص - وإن كان ظاهر الإئية، فهو خفي الماهية)(2).

ونأتي إلي عالم آخر، لكي يوضح لنا هذه التقسيمات، وهو العارف الرباني القاضي سعيد القمي رضي الله عنه، يقول: ( اعلم أن الزمان علي طبقات ثلاث:

الأولي: الزمان الكثيف، وهو زمان الكائنات المادية، ومنه الحركات الحسية.

الثانية: الزمان اللطيف، وهو مدة حركات الروحانيات المدبِّرة للعالم الجسماني، المحركة للمواد بالتسخير السلطاني، ومنها:

- حركة الملائكة بالوحي والإلهام والنصرة والانتقام.

ص: 115


1- التراث ج 2 شرح دعاء التحميد ص 87.
2- المصادر السابق ص 85.

- و كذا حركات الجن والأرواح المتعلقة بالأجسام.

- وظهور معجزات الأنبياء والأولياء.

وعليه خرج قوله تعالي : « ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ »(1).

الثالثة: الزمان الألطف، وهو زمان الأرواح العالية والأنوار المقدّسة، وعليه قوله عزّ شأنه: «تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ »(2) ، وفيه تمام الدنيا والآخرة.

ولعله إلي هذه المراتب أشار ما في اصطلاح الحكمة القديمة، من أن نسبةالمتغير إلي المتغير زمان، وإلي الثابت دهر، ونسبة الثابت إلي مثله سرمد)(3).

وهذا يؤكد ويدعم ما قلناه، من أن الزمان يختلف باختلاف مراتب الحقائق والكائنات، فالكائنات كلما كانت أقرب إلي الكثافة، وإلي عالم الكثرات، كان زمانها كذلك، والحقائق إذا كانت أقرب إلي اللطافة، كان زمانها يتمتع بنفس هذه الخصوصية، والحقائق الصرفة المجردة، زمانها من نفس عالمها وتكوّنها.

ويختلف الزمان بالنسبة إلي المدارس المختلفة، فالمدارس أو التوجهات والمشارب المتنوعة، أعطت الزمان تفسيراً يتناسب مع مشربها، فمشرب

ص: 116


1- سورة السجدة الآية 5.
2- سورة المعارج الآية 4.
3- شرح توحيد الصدوق ج 1 ص 152.

العلم الفلكي غير مشرب العلم الفلسفي، وهو غير المشرب العرفاني.

ويتحدد صلاح الزمان وفساده بصلاح أهله وفسادهم، فالزمان الصالح والحسن، عبارة عن صورة حسن الأفعال والأقوال، وفساد الزمان يعود لفساد أهله، إذاً إذا صلحت الأعمال صلح الزمان، وإذا هي فسدت فسد.

الإمام المهدي عليه السلام، هو صاحب الزمان بجميع مراتبه وأقسامه وأنواعه، وهو المحيط به، والمجري له.

مظاهر قدرة المهدي علي الزمان
اشارة

ما هي مظاهر القدرة علي الزمان في خلافة الإمام المهدي عجل الله فرجه الشريف؟

في الجواب علي هذا السؤال سنتحدث عن نقطتين:

الأولي: التصرف بالزمان طياً ونشراً

أو بتعبير آخر قبضاً و بسطاً، أي يكون الإمام المهدي عجل الله فرجه القابض والباسط للزمان بإذن الله تعالي، والقابض والباسط هي من الأسماء الإلهية، ومن يتحقق بصفات الله ويتجلّي بأسمائه، يتصرف في الأشياء بما يرضي الله تعالي، والزمان شيء من الأشياء، إذاً يتصرف به قبضاً و بسطاً، طيّاً ونشر.

(صاحب الزمان، وصاحب الوقت والحال، هو المتحقق بجمعية البرزخية الأولي، والمطّلع علي حقائق الأشياء، الخارج عن حكم الزمان، وتصرفات ماضيه ومستقبله إلي الآن الدائم، فهو ظرف أحواله وصفاته

ص: 117

وأفعاله، فلذلك يتصرف بالزمان بالطي والنشر، وفي المكان بالبسط والقبض، لأنه المتحقق بالحقائق، فإن المتحقق بالحق، المتصرف بالحقائق، يفعل ما يفعل في طور وراء طور الحس والوهم والعقل، ويتسلط علي العوارض بالتغيير والتبديل)(1).

وفي القرآن الكريم أمثلة علي هذا الأمر، ففيه مثال عن القبض، وفيه مثال عن القبض والبسط معاً، فالمثال الذي عن القبض فقط، متمثل في قصة أصحاب الكهف، حيث يقول عزّ وجلّ في شأنهم: «وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا »(2)، ويقول في آية قبلها: « قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ »(3)، وقولهم: "يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ"، مبني علي عدم التغير الظاهر والواضح في الأجساد والأبدان، ولكن عندما ذهب أحدهم ليشتري طعاماً، لاحظ التغيرات الخارجة عن الكهف.

وهناك مثال آخر في القرآن الكريم يمثل الجانبين معاً، جانب القبض وجانب البسط، وذلك في قصة عزير وحماره وطعامه في سورة البقرة، إذ يقول تعالي: «أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَي قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَي عُرُوشِهَا ،قَالَ أَنَّي يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا، فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ ،قَالَ كَمْ لَبِثْتَ، قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَي طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ

ص: 118


1- كشاف اصطلاحات الفنون ج3 ص 4.
2- سورة الكهف الآية 25.
3- سورة الكهف الآية 19.

لَمْ يَتَسَنَّهْ، وَانْظُرْ إِلَي حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ، وَانْظُرْ إِلَي الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا»(1).

( وقد ذكر بعض المفسرين أن المراد بالموت، الحال المسمّي عند الأطباء بالسُّبات، وهو أن يفقد الموجود الحي الحس والشعور - مع بقاء أصل الحياة - مدة من الزمان، أياماً أو شهوراً أو سنين، كما أنه الظاهر من قصة أصحاب الكهف ورقودهم ثلاثمائة وتسع سنين)(2).

وحتي يكون الأمر واضحاً دون أي لبسٍ، أو تأويلاتٍ بعيدةٍ عن الحقيقة، تحوّل الحمار إلي عظام بالية، أي بُسط عليه الزمان، بينما الطعام لم يتغير، أي قُبض عنه الزمان، ( فحال الحمار يدل علي طول المكث، وحال الطعام والشراب يدل علي إمكان أن يبقي طول هذه المدة علي حال واحد، من غير أن يتغير شيءٌ من هيئته)(3).

ويمكن للبعض أن يصنف هذه الحقيقة القرآنية، علي أنها أقرب إلي المثال العلمي منه إلي الحقيقة والواقع، وهؤلاء معذورون، لعدم اطّلاعهم حتي علي الروايات والأحاديث الثابتة عن النبي صلي الله عليه وآله وسلم، ومنها:

- (لا تقوم الساعة حتي تروا أموراً عظاماً لم تكونوا ترونها، ولا

ص: 119


1- سورة البقرة الآية 259.
2- الميزان في تفسير القرآن ج 2 ص 365.
3- المصدر السابق ص 368.

تحدثون بها أنفسكم)(1)،

- (إن المؤمن في زمان القائم وهو بالمشرق، ليري أخاه الذي في المغرب، وكذا الذي في المغرب يري أخاه الذي في المشرق)(2).

وربما هذه الرواية ناظرة إلي أبعد مما يعتقده البعض من أنها تشير إلي أدوات الاتصال الحديث، مثل التلفزيون والتلفون والإنترنت وغيرها، وذلك لأننا نري تداول هذه الأجهزة واستخدامها، سواء في ذلك المؤمن وغير المؤمن، وسياق الرواية يخص المؤمن هذا الأمر، وهذا يحتاج إلي مزيد من التأمل العميق في مدلولها، والوصول إلي مصداقها.

- وهناك رواية أخري: ( عن أبي الربيع الشامي قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: إذا قام قائمنا مدَّ الله لشيعتنا في أسماعهم وأبصارهم حتي لا يكون بينهم وبين القائم بريد، يكلمهم فيسمعون، وينظرون إليه وهو في مكانه)(3).

ومن المحتمل جداً أن هذه الروايات تشير إلي قوة التخاطر بين الإمام وأصحابه وأتباعه، (والتخاطر هو اتصال فكري بين عقل و عقل، أو عقول أخري دون واسطة الحواس، وهو لا يقتصر علي الفكر، بل يتعداه ليشمل جميع العواطف والمشاعر، فالمسافة بين المشرق والمغرب ليست حاجزاً يمنع اتصال معلومات وأفكار تعاطفية بطريقة ما، والتخاطر يحتاج إلي مرسل،

ص: 120


1- المهدي المنتظر ص 489.
2- مكيال المكارم ج 1 ص 23، عن الإمام الصادق عليه السلام.
3- بحار الأنوار ج 21 ص 506.

وهو الشخص، ورسالة وهي الأفكار، ومستلم الرسالة وهو العقل الآخر، وتبقي حلقة أخري، وهي حامل الرسالة، وهو شبيه بحقل نفسي لسنا نحصّله، وتتجاذبنا علائق الأجساد والأجسام)(1).

ومما يختص به الزمان في خلافة خاتم الإمامة والولاية المهدي عجل الله فرجه، طول الأعمار والسنوات، وهذا تابع لبطئ الحركة الفلكية من جهة، وانبساط العدل وانقباض الجور، ونشر الحق وطي الباطل، من جهة ثانية، (عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: ويأمر الله الفلك في زمانه فيبطئ في دورانه، حتي يكون اليوم من أيامه كعشرة أيام والشهر كعشرة أشهر، والسنة كعشر سنين من سنّيكم)(2).

( وفي كتاب أعلام الوري: ذكر الخثعمي أن الصادق عليه السلام، أخبره بطول الأيام والليالي في دولة القائم عليه السلام، قلت له: جعلتُ فداك، وكيف تطول السنون؟ قال: يأمر الله الفلك باللبوث وقلة الحركة، فتطول الأيام لذلك والسنون)(3).

و (روي الكليني بإسناده إلي أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: إن الله عزّ وجلّ جعل لمن جعل له سلطاناً أجلاً ومدةً من الليالي والأيام، والسنين والشهور، فإن عدلوا في الناس، أمر الله عزّ وجلّ صاحب الفلك، فأبطأ بإدارته، فطالت أيامهم ولياليهم و سنو نهم وشهورهم، وإن جاروا في الناس .

ص: 121


1- الإسراء والمعراج - رموز ودراسة تحليلية ص 74.
2- مكيال المكارم ج1 ص 372.
3- الطور المهدوي ص 232.

ولم يعدلوا أمر الله تعالي صاحب الفلك فأسرع في إدارته، فقصرت أيامهم ولياليهم وسنونهم وشهورهم، وقد وفي الله بعدد الليالي والشهور)(1).

(وقد ورد في الأخبار المستفيضة، أن أيام دولة المهدي عليه السلام، تكون كل سنة تعادل سبع سنين، فقيل له: يا بن رسول الله، إن الفلك لا يزول عن حركته هذه، ولو زال لفسد، فقال عليه السلام: هذا قول الزنادقة والمنجمين)(2).

(وقد اتضح أن هناك شيئاً يسمّي "الزمن البيولوجي" - أي المختص بعلم الأحياء، ويبدو أن الزمن يسير في بطء بالنسبة للأطفال، علي حين يسير بسرعة فائقة بالنسبة لكبار السن، وهذه الظاهرة المعروفة، قد وُجد أنها قائمة علي دورة الحياة التي للخلايا، وقد يمكن التعبير عن ذلك بأبسط طريقة، بالقول بأن خلايا كل مخلوق حي تتطور سريعاً عند بدء الحياة، ثم تبطئ عند اقتراب نهايتها، وإذا تكلمنا عن ذلك من الوجهة البيولوجية قلنا: إن كثرة حوادث الخلايا التي تحدث في الطفولة، تشعر الطفل بطول الزمن، في حين أن بطء نشاط الخلايا في الكبر، تشعر الإنسان بأن الزمن يمر سريعاً، ويبدو أن دورات الحياة لا علاقة لها بالزمن المطلق الذي نقيسه بحركات الأجرام السماوية)(3).

ولكي نختم هذه النقطة نقول باختصار: إن الإمام المهدي عجل الله

ص: 122


1- رسائل أل طوق ج3 ص 93.
2- المصدر السابق ص 94.
3- العلم يدعو للإيمان ص 168.

فرجه وسهل مخرجه، سيعلّم الخلائق والموجودات فلسفة الزمان، ويضع في أيديهم وإمكاناتهم مفاتيحه و كيفية استخدامه في خلافته استخداماً حقيقياً كاملاً؟ ومثمراً، ويعلّم المؤمن كيف يتصرف بالزمان كما ينصرف بالمكان والمادة والطاقة.

كما وعلينا أن ندرك، أن للزمان حقائق غيبيةً، كغيره من الحقائق والموجودات، وله تنزُّلاتٌ في الوجود حتي وصل إلي هذه الصورة، التي هو عليها الآن، من ساعة ويوم وشهر وسنوات، ( إن الأيام كغيرها من جميع الأشياء، لها أصول وحقائق في عالم الغيب، ولها تنزُّلاتٌ في الإيجاد والتكوين، إلي أن كانت كما هي عندنا، وربما كان لها تنزُّلاتٌ أبعد مما عندنا، فأيامنا هذه زمانية يتأتي وجودها من دورة كو كبنا كما تقدم، ولله سبحانه أيام، قال تعالي: « وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ » ، وأيامه سبحانه محيطة بالأيام الزمانية، ومقادير أيام الله متفاوتة بحسب تفاوت مراتب فعله، فقد تُقدَّر بألف سنة، وبخمسين ألف سنة، كما ورد في القرآن الكريم، فهذه الأيام والأشهر لها حقائق متمايزة في مراتب الملكوت والجبروت، وتلك الحقائق لها آثار و خواص ورقائق في هذه الأيام، التي هي قوالب لها، وتلك أرواحها)(1).

(فالأيام من الأحد - الاثنين - الثلاثاء الأربعاء الخميس - الجمعة - -السبت، وهذه الأيام روحانية يعرفها العارفون، ولها أحكام في الروح

ص: 123


1- التكوين والتجلي ص 156 - 157.

والعقل)(1).

الثانية: السفر عبر الزمان

إن الزمان له شيئية، وهذه الشيئية الزمانية هي إنّيَّته، وكما قال أحد أعلام وعلماء القطيف عن الزمان: "ظاهر الإنيّة خفيٌ الماهية"(2)، وهذه الشيئية الزمانية تنقسم إلي ثلاثة أقسام:

الأول: شيئية ما ضوية.

الثاني : شيئية حالية.

الثالث: شيئية مستقبلية (استقبالية).

والمؤمن المتحقق بحقائق العبودية والمتحلي بالصفات الإلهية، قد سخّر الله له كل شيء، ومن قاعدة التسخير يستطيع أي مؤمن في دولة الإمام المهدي عليه السلام، أن يسافراً سفراً زمانياً، كما هو الحال في مقدرته علي السفر المكاني.

وفي هذا السفر الزماني، يكون الأمر في الماضي كما في المستقبل علي حد سواء، وهو عبارة عن تجلّي جميع الأحداث الماضوية، و كشف الأحداث المستقبلية للإنسان المؤمن، فتكون الأحداث الماضية والمستقبلية حاضرة عنده و مكشوفة لديه، يراها ويعيشها دون احتجاب .

يمكن للبعض أن يرد علي هذا الكلام ويقول: إن هذا الأمر هو من الأمور الغيبية، ولا يعلم الغيب إلا الله، فكيف نوفق بين ما تقول، وبين

ص: 124


1- التكوين والتجلّي ص 159.
2- شرح دعاء التحميد ص 85.

الإيمان بالغيب؟.

علينا هنا، أن نلتفت إلي شيء مهم في مسألة الغيب لم نشر إليه من قبل، فالغيب هو الغائب والبعيد عن الحواس، وقد سبق أن قلنا أن من ضمن أقسام الغيب أمران: ماضوي ومستقبلي، وإذا عدنا إلي تقسيم آخر للغيب، وهوالتقسيم الأولي، نجد له مرتبتين:

المرتبة الأولي: الغيب المطلق، أو غيب الغيوب، وهو المتعلق بالذات الإلهية، حيث لا يعلم أحد من المخلوقات - علي اختلاف مراتبها- منه شيئاً، فكل الموجودات الإمكانية أمام هذا الغيب المطلق سواء.

يقول الإمام علي عليه السلام: ( يا هو، يا من لا يعلم ما هو، ولا

كيف هو، ولا أين هو، ولا حيث هو، إلا هو)(1).

فهذه هي المرتبة الأولي من الغيب، وهو الغيب المطلق، الذي هو شأن من شؤون الذات الإلهية، و كلامنا ليس في هذه المرتبة.

المرتبة الثانية: الغيب النسبي، وهو محل البحث، وهو الذي يكون غيباً بالنسبة إلي طائفة، وشهوداً بالنسبة إلي طائفة أخري، أي يغيب عن بعض وينكشف للبعض الآخر.

من هذا النوع ومن هذه المرتبة ما جري في الماضي، وما سيجري في المستقبل، الماضي بالنسبة لي غيب، ولكنه بالنسبة لمن عاشوا ذلك الزمان ليس كذلك، وهكذا الحال بالنسبة إلي المستقبل.

يقول القرآن الكريم في قصة النبي عيسي عليه السلام: « وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا

ص: 125


1- الصحيفة العلوية ص 35.

تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ »(1).

(وفي عين الحياة: جاء رجل إلي الإمام علي بن الحسين عليه السلام، فسأله الإمام: من أنت؟ قال: أنا منجّم، فقال عليه السلام: هل أخبرك عن رجلقد عبر أربعة عشر عالَماً منذ مجيئك إلينا وإلي الآن، و كل عالَم ثلاثة أضعاف هذا العالَم، ولم يتحرّك من مكانه؟ فقال المنجّم: ومن هو؟ قال عليه السلام: أنا، وإذا أردتَ أخبركَ ما أكلتَ وما ادّخرتَ في بيتك)(2).

هذه الرواية تتطرّق إلي الأمرين معاً: السفر عبر الزمان، وكشف الغيب النسبي.

و ( قال أمير المؤمنين عليه السلام، بعد أن سأله رجل عن علمه بالغيب: إنما هو تعلّمُ من ذي علم(3)، و ( عن معمّر بن خلاد قال: سأل أبا الحسن رجل من أهل فارس، فقال له: أتعلمون الغيب؟ قال أبو جعفر عليه السلام: يُبسَط لنا العلم فنعلم، ويُقبَض عنا فلا نعلم)(4).

نستنتج من كل ذلك، أن انكشاف الماضي والوصول إلي المستقبل، ليس بالأمر المستحيل في نفسه، أي أنه ليس من المستحيلات الذاتية، خصوصاً إذا عرفنا أن الماضي لم يَفنَ، وأن المستقبل تحت غطاء الحجاب الزماني.

ص: 126


1- سورة آل عمران الآية 49.
2- حقيقة الإمامة ص 87.
3- شرح أصول الكافي ج6ص 30.
4- المصدر السابق .

وبعد هذا الإيضاح نعود لنتعرف علي وسائل السفر الزمان، فكيف يتم السفر عبر الزمان؟.

وسائل السفر عبر الزمان
اشارة

من المعلوم أن للسفر عبر المكان وسائله، وهذه الوسائل قد تقدمت مع مرور الزمان وتقدم الأدوات، ومن هذه الوسائل ما هو سريع، ومنها الأسرع، مثل السيارة والقطار والباخرة والطائرة، أي منها البرية والبحرية والجوية، هذههي وسائل السفر عبر المكان، فما هي وسائل السفر عبر الزمان؟

سوف نشير هنا إلي وسيلتين أو طريقين ، وهما:

الأول - (طريق التجرّد):
اشارة

أي الوصول إلي مرحلة التجرّد.

وقد يتعجّب البعض من هذا الكلام، ويندهش آخرون، ولكنه أمر سهل وبسيط عند أصحاب اليقين، كأمير المؤمنين عليه السلام، الذي يقول: (لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً)، ومن حقنا هنا أن نسال: هل حقاً سيأتي زمان نسافر من خلاله عبر الزمان، ونلتقي بالزمان الماضي والزمان الاستقبالي؟.

وسيأتينا الجواب: نعم، وإن كان تقبل هذا الأمر الآن صعباً علي بعض النفوس، كما كان الأمر نفسه في الماضي بالنسبة إلي السفر عبر الفضاء، والصعود إلي القمر، والوصول إلي المرّيخ، وسوي ذلك مما تم الآن وأصبح متقبّلاً لدي النفوس، كان ثمة صعوبة في السفر عبر الفضاء، وذلك

ص: 127

لوجود المعوقات والموانع والقوانين غير المعروفة، والتي من أهمها قانون الجاذبية، وعندما تم اكتشاف هذه القوانين وقهرها وتطويعها بالعلم لإرادة الإنسان، استطاع الإنسان أن يسافر عبر الفضاء، فلماذا إذاً نتعجب ونستغرب السفر عبر الزمان؟.

سيأتي وقت أيضاً، يقهر الإنسان فيه المعوقات والموانع التي تقف في الوقت الحاضر حائلاً بينه وبين سفره الزماني، سوف يقهر ويذلّل هذه الموانع جميعها، وسينتصر الإنسان في النهاية علي هذه القوانين، كما انتصر في الماضي علي جملة من القوانين، وفي طليعتها قانون الجاذبية، واستطاع أن يسافر عبر الفضاء، وأن يمخر بمراكبه وطائراته عباب الفضاء والهواء، وهذااليوم الموعود، سيكون في خلافة صاحب الزمان، الإمام المهدي المنتظر عجل الله تعالي فرجه وسهل مخرجه، وسيكون ذلك بوسيلة التجرد النفسي، أو التحرر النفساني من آثار و تعلقات البدن والمادة، والقدرة علي التخلص من سجن البدن.

وقبل الولوج في عمق هذه المسألة، وتسهيلاً للمعني والأمر معاً، أود هنا أن أثير هذا السؤال، الذي ليس للكثير من الناس أدني اطلّاع عليه ومعرفة حوله، وهو: هل حقاً يفي الماضي وينعدم، وينتهي بشكل كامل ومطلق؟ أم أنه يبقي في مرتبة أخري من المراتب الوجودية؟.

وهل للأحداث الاستقبالية أو المستقبلية وجود أم لا؟

إذا رجعنا إلي القرآن الكريم، نري أن بعض الآيات تشير إلي حقيقة مهمة، مرتبطة بالفعل الإنساني والعمل البشري، وهي حقيقة بقاء العمل

ص: 128

والفعل، وأن كل عمل يعمله الإنسان وكل فعل يفعله محفوظ في خزائن ثلاث:

الخزانة الأولي: هي الوعاء النفساني، حيث الأعمال والأفعال محفوظة في عمق النفس الإنسانية.

الخزانة الثانية: هي الوعاء المكاني، المكان الذي يعمل فيه الإنسان.

الخزانة الثالثة: هي الوعاء الزمان، أي الزمان الذي تم فيه العمل، أو الفعل.

يقول الله سبحانه وتعالي في القرآن الكريم مؤكّداً علي هذه الحقيقة: «وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا »(1) ، ويقول سبحانه: «يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا »(2) .

وأما أنطواء الزمان بكلا شقيه الماضي والاستقبالي في الوعاء النفساني الكل إنسان ولو نسبياً، فهو قائم بالدليل الوجداني.

وتوضيحاً لهذا الأمر نقول: إن الإنسان لديه القدرة والقابلية لتذكّر ما مضي من الأعمال والأفعال والأقوال، فإذا أراد أن يتذكّر حادثة من الحوادث الماضية، حدثت قبل شهر أو سنة أو عشرات السنين، فليس عليه إلا أن ينتقل إلي الأرشيف الذهني، ويتنقّل في الوعاء النفساني، ويتذكّر تلك الأيام، ويسترجع ما يريد من الأحداث، فيراها ولو بالقوة الخيالية أو المتخيلة، ماثلة أمامه.

ص: 129


1- سورة الكهف الآية 49.
2- سورة آل عمران الآية 30.

هذا من الزاوية الماضوية، و الأمر ذاته من الزاوية الاستقبالية، فليس عليه إلا أن يحرك القوة الخيالية ويتخيل ما يريد فعله بعد ساعة مثلاً، كأن يتخيل أنه يذهب إلي أحد أصدقائه، أو أنه يهيئ لنفسه طعاماً، أو يخرج في نزهة علي شاطئ البحر، أو .. أو ، وعندما يفرغ من هذا الخيال يقوم بهذه الأعمال، فيزور صديقه، ويصنع طعاماً لنفسه، أو يأتي البحر، كما رسم ذلك في مخيلته وذهنه و خطّطها في الوعاء النفساني، إذاً هنا سبق الزمان، وهناك أرجع الزمان، ولو بهذا المقدار وبهذه النسبة.

وهذه النسبة ستكون أكثر اتّساعاً وأعلي مرتبةً، وستأخذ طريقها إلي التحقق، وسيكون الأمر أعمق من كونه انتقالاً في الوعاء الذهني أو حركة خيالية، بل سيكون تنقلاً وسفراً في عمق الوعاء الزماني وحقائق الزمان، لأن كل شيء من أفعال وأعمال وأقوال الإنسان محفوظ في هذه الأوعية الثلاثة.

يقول أحد أعلام علماء القطيف: (لذا ورد أن التائب تنسي جوارحه ما كتبته، ويوحي إلي جوارحه وإلي بقاع الأرض بالكتمان، ولا يذكُر به لا دنيا ولا آخرة، وورد شهادة رجب وشعبان ورمضان لمن صامها، وكذلك البقاع، لأن الأرض والسماء والزمان لا تعدم، بل الكل محفوظ ويعاد ولكن بطور آخر)(1).

وهذا ما اكتشفه العلم الحديث أخيراً، وقد سعي لاستخراج بعض الأحداث التي حدثت في الماضي، يقول الدكتور مصطفي محمود: ( نحن

ص: 130


1- ثلاث رسائل - غاية المراد في تحقيق المعاد ص 78.

حينما نري أحد النجوم ويخيل إلينا أنا نراه الآن، نحن في الحقيقة نراه عن طريق الضوء الذي ارتحل عنه منذ ألوف السنين ليصلنا، نحن في الواقع نري ماضيه ويخيل إلينا أننا نري حاضره، وقد يكون في الحاضر قد انفجر واختفي، أو ارتحل بعيداً خارج نطاق رؤيتنا، وما نراه في الواقع إشارة إلي ماضٍ)(1).

وللبعض أن يقول: لو كان هذا الأمر صحيحاً، فلماذا لم يتم ذلك إلي الكثير من الناس؟ ونحيب: إن السبب هو الإنسان نفسه، إن الله تعالي لم يبخل علي الإنسان بشيء، فقد خلقه عملاقاً كبيراً، وأودع فيه القابلية لأن يكون خليفته في الأرض، ولكن هذا الإنسان رضي أن يكون محدوداً و محبوساً و مقيد و محجوباً، في الطين والتراب والشهوات والملذات.

وقد أعجبني قول بعض الفضلاء: ( إن محدودية الإنسان هي التي جعلت له زماناً ماضياً وآخر حالياً وآخر استقبالياً، إذ في الواقع الخارجي الكل موجود، وليس هناك شيء ماضٍ وآخر سيأتي، مثلاً: إذا كنا جلوساً في محفل، فالمجلس في الآن الأول موجود، وبعد ساعة سينفض، والغرفة حينها تصبح فارغة من البشر، ولكن هذه الصورة تبقي موجودة، وهذا الوجود نفسه يبقي موجوداً في محله.

ونحن تارة ندرك هذه القضية، و تارة أخري لا ندركها، كالجالس داخل غرفة وهو ينظر من فتحة الباب إلي الفضاء خارجها، فلو فرضنا أن هناك رجالاً ثلاثة يمشون من أمام فتحة الباب، رجل في المقدمة والثاني في

ص: 131


1- أينشتاين والنسبية ص 39.

الوسط والثالث في الأخير، وكلهم يمرون من أمامه، فالأول الذي مرَّ به فإنه يراه في الزمان الحاضر، وعندما تجاوز باب الغرفة صار بالنسبة إليه ماضياً، لأنه لم يره بعد ذلك، مع أنه في الواقع موجود، وهكذا إذا مر الثاني، ففي نظر الجالس في الغرفة، أن الأول انمحي واضمحل، والموجود هو فقط الثاني الذي أمامه، لأن الثالث بالنسبة إليه استقبالي لأنه لم يره بعد، ولكن في واقع الحال، الأول والثاني والثالث كلهم موجودون، ولكن مدارك الناظر عاجزة عن درك هذا الوجود، فنحن في وجودنا نتحرك، وكل حركاتنا وسكناتنا مسجلة ومستقرة في هذا العالم، ولكن نحن لا ندرك ذلك لعجز فينا لا لاضمحلال هذه الحقائق، وبناء علي هذا الكلام، فإن جميع الأعمال مسجلة في صفحة الوجود، وإن كنا لا ندري بالضبط أين تكون مسجلة، أفي الفضاء أم في الهواء أم غير ذلك.

ولعل هذا هو الذي أشار إليه بعض علماء الفلك، من أنه توجد بعض الصور في هذا العالم، ونحن نعمل الآن لإمكانية تصويرها وتحويلها إلي الحس من جديد، وقال بعضهم: نحن يمكننا أن نخرج صور العديد من أحداث التاريخ في فيلم متلفز، لأن الصور لا تضمحل، وإنما هي باقية وثابتة)(1).

(وقد اكتشف العلماء جهاز تصوير يعمل بالأشعة ما تحت الحمراء، يستطيع أن يصور حدثاً لم يمض عليه أكثر من بضع لحظات، وأما كيفيته علي ما نقلته بعض وسائل الإعلام، فهي أن الحدث - بعد صدوره من

ص: 132


1- المظاهر الإلهية ج1 ص 138.

الأجسام - يبعث أمواجاً في الفضاء، وهذا الجهاز يتمكن من اجتذاب هذه الأمواج، ويحولها بواسطة جهاز يدعي " ترفو كرام"، ثم يجمعها ويعطيها صورتها، وقد نقل أخيراً أن هذا الجهاز أو شبيهه سوف تستخدمه أجهزة مكافحة الجريمة في تصوير الجرائم الواقعة، إذا لم يمض عليها زمن قياسي طويل، لمعرفة المحرم وكيفية حصول الجريمة)(1).

ألم يقل القرآن الكريم: « وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا »، فشيئية الماضي لم تعدم، وشيئية المستقبل لها وجود، والشيء والموجود يستطيع الإنسان أن يراهما إذا تجرد من علائق المادة، وتحرر من سجون الأهواء النفسانية والمكائد الشيطانية، وعندها يستطيع هذا الإنسان السفر عبر الزمان سفراً روحانياً، والنظر إلي كل المشاهد الماضية وهو في مكانه، ويستطيع رؤية مستقبله أيضاً.

(ينقل السيد القاضي عن السيد الخوئي قوله: عندما كنت في النجف مشغولاً بتحصيل العلوم الدينية، كنت ملتزماً بالآداب والسنن والأوراد والأذكار، وكنت أحضر أحياناً المجالس الأخلاقية المباركة للمرحوم السيد علي القاضي قدس سره، وأنتفع من أنفاسه القدسية، إلي أن قلت له يوماً: علمني شيئاً أعمل به، فأعطاني عملاً وقال: التزم به أربعين يوماً، فواظبت علي أوراده، وفي اليوم الأربعين حصلت لي حالة مكاشفة، فرأيت جميع الحوادث و كيفية حياتي ومستقبلي، ورأيت نفسي علي المنبر أعطي در ساً، ورأيت نفسي جالساً في المنزل والناس تتردد عليّ، ورأيت إمامتي لصلاة

ص: 133


1- المظاهر الإلهية - حاشية ص 139.

الجماعة، ومراجعات الناس لي وحالات مختلفة، رأيت كل ذلك كمرآة تشيرأمامي، حتي وصلت إلي مكان سمعت فيه صوتاً من أعلي منارة حرم أمير المؤمنين عليه السلام، يقول: « إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ »، انتقل إلي جوار ربه الكريم آية الله السيد الخوئي، ثم ارتفعت تلك الحالة عني، ورجعت إلي حالت العادية)(1).

تلمس من هذه القصة، أن السيد الخوئي قدس سره، قد سافر عبر الزمان - المستقبل - في دقائق معدودة، رأي من خلالها أحداثاً استمرت له أكثر من خمسين سنة، أي تراءت له أحداث السنوات طوال في دقائق معدودة، عن طريق التجرد الروحي.

هل بإمكان الإنسان أن يصل إلي مرحلة التجرد الروحي؟

نعم إن ذلك بالإمكان، وليس أدل علي إمكان الشيء من وقوعه.

فإذا رجعنا إلي أنفسنا رأينا بالدليل الوجداني إمكان ذلك، فلقد وقع التجرد لكل فرد من البشر، وجرّبه كل إنسان، فإن لم يكن قد حصل هذا التجرد في اليقظة، فقد حصل علي أقل التقادير وأضعف الاحتمالات - في النوم عن طريق الأحلام، والنوم هو الموت الأصغر، وذلك لما يقع في حالة النوم للإنسان من التجرد، والتخلي ولو بشكل جزئي عن علائق البدن وحاجيات الجسم، ولذا اعتبرت الأحلام من الآيات الإلهية، يقول الله تعالي: «وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ، إِنَّ فِي

ص: 134


1- القصص العرفانية ص 314.

ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ»(1).

(الرؤيا الصادقة ارتباط النفس بمباديها العالية النورية، فتعقل الحقائق أولا ثم تتخيلها نزولاً، أي تصورها بحسن صناعتها في صقع ذاتها بقواتها المتخيلة، علي صور تناسب تلك المعاني، ومن الأدلة التي أقاموها علي أن النفس جوهر مفارق، ما يدركه الإنسان في مناماته من المغيبات الصادقة لا يتأتي مثلها له في اليقظة غالباً، والارتباط المذكور إنما يتأتي من حيث انصراف النفس عن هذه النشأة، فإن تحقق الانصراف في اليقظة، يتحقق مثل الرؤيا أيضاً، وفي الروايات أن الرؤيا الحسنة جزء من النبوّة، وذلك الجزء متفاوت باعتبار مراتب الرائي)(2).

الثاني - (طريق الصعود إلي مرتبة اللطافة):

التجرد: عبارة عن تحرر النفس من سلطة البدن العنصري وعوارضه المادية، وعلائقه الكثيرة وحيثياته المتعددة وجهاته المتعارضة.

واللطافة: هي عبارة عن طرح تلك الحيثيات، وطرد تلك المقتضيات والعوارض، والتخلص من جواذب الكثران وأضداد الجهات، ولا يتأتي ذلك إلا عن طريق التزكية والتربية والرياضات الشرعية، والصعود في المعارف الإلهية والعلوم الحقيقية والتي علي رأسها علم التوحيد، والوصول إلي التوحيد الحقيقي عبر التوحد الوجودي.

والتوحد الوجودي = التوحد الأفعالي + التوحد الصفاتي بالنسبة إلي

ص: 135


1- سورة الروم الآية 23.
2- سرح العيون ص 32.

الإنسان، وبمعني آخر = التوحد الظاهري + التوحد الباطني، وهذا التوحد يؤدي إلي التطابق في الكونين والعالَمين.

إن السير في مراتب التوحيد ودرجاته يصل بالإنسان إلي أعلي مراتبه وأرقي درجاته وأكمل حقائقه، وهو: " التوحيد الشهودي، والتوحيد التحققي" لله تعالي.

يقول الإمام الخميني قدس سره": ( فلو تحررتَ من أسر النفس، وأصبحتَ عبداً الحق المتعالي، وجعلتَ القلب موحِّداً، وجليتَ مرآة روحك من غبار النفاق والاثنينية، وأرسلت قلبك إلي النقطة المركزية للكمال المطلق، لشاهدتَ بعينيك آثار ذلك في هذا العالَم، ولتوسّع قلبك بقدرٍ يغدو محلاً لظهور السلطنة التامة الإلهية، حيث تصير مساحتها أوسع من جميع العوالم: "لا تسعني أرضي ولا سمائي، ولكن يسعني قلب عبدي المؤمن"، ولشعرتَ غِنيً واضحاً في النفس، حيث لم تعد تعبأ بكل العوالم الغيبية والمادية، وأصبحت إرادتك قوية، حيث لم تعد تفكر في عالمي الملك والملكوت، ولم تعد تجد لهما اللياقة لاحتضانك)(1).

وكما بالإمكان أن يكتسب البدن من جهة النفس، بعض الحيثيات والخصائص، ويصل بذلك إلي لطافته وصقالته وعالي همته، ( ويطير الإنسان بهمته كما يطير الطائر بجناحيه)، فكذلك هو الحال بالنسبة إلي النفس إذا توجهت إلي جهة البدن، تكتسب منه بعض حيثياته ومقتضياته، من الكثافة والثقل والاشتغال بالكثرات والتقيد بالجهات المتضادة، فتكون

ص: 136


1- رشحات ملكوتية ص 53.

العبادة من أثقل الأعمال علي هذه النفس، وهذا ما عبروا عنه بالتثاقل والكسل، يقول الله سبحانه وتعالي في القرآن الكريم: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَي الْأَرْضِ »(1) ، ويقول عزّ من قائل: « وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَي وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ »(2) ، ويقول جلت عظمته: «إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَي الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَي » (3).

فالنفس إذاً تكتسب حيثيات البدن ومقتضيات الجسم وفي مقدمتها:

الثقل "اثاقلتم"، والكثافة والكثرة "كسالي"، إذا وئدت بالشهوات وقبرت بالأهواء، ولم يكن للإنسان همٌّ سوي بطنه وفرجه.

إذاً، اللطافة: هي عبارة عن انعكاس سلطة النفس، واكتساب البدن حيثيات النفس، وخضوعه الكامل والتام لهذه السلطة، وبعد هذه المرحلة- الاكتساب - تكون التبعية، أي تبعية البدن لمقتضيات النفس، ومن ضمن هذه المقتضيات اللطافة، وإذا اكتسب البدن اللطافة من جانب النفس، طرحت الكثافة ونُزِع الثقل من الجانب الترابي المادي، ومن هذه العملية -الطرح والاكتساب - يستطيع الإنسان أن يسافر عبر الزمان.

من كل ما ذكرنا، يتوضح لنا أن الإنسان يمر بمرحلتين: التخلّي عن الكثافة، والتحلّي باللطافة، وبهذا البدن اللطيف التابع لسلطة النفس، يمكن

ص: 137


1- سورة التوبة الآية 38.
2- سورة التوبة الآية 54.
3- سورة النساء الآية 142.

للإنسان أن يسافر عبر الزمان - الماضي منه والمستقبلي -، وهذه المرتبة لا يصل إليها إلا آحادٌ من العباد والأولياء.

وهنا أحب أن أذكر هذه الرواية التي تشير في مدلولها إلي سلطة أئمة أهل البيت عليهم السلام علي الزمان:

( في خبر حكيمة عليها السلام قالت: فلما كان بعد أربعين يوماً، دخلت دار أبي محمد عليه السلام، فإذا مولانا صاحب الزمان عليه السلام يمشي في الدار، فلم أر وجهاً أحسن من وجهه، ولا لغة أفصح من لغته، فقال لي أبو محمد: هذا المولود الكريم علي الله عزّ وجلّ، قلت له: يا سيدي، له أربعون يوماً وأنا أري من أمره ما أري!، فقال عليه السلام: أما علمتِ يا عمّتي، أنا معشر الأوصياء، ننشأ في اليوم ما ينشأ غيرنا في السنة؟)(1).

(صاحب الزمان: هو من خرج عن حكم الزمان، لتحققه بجمعية البرزخية الأولي، وعن تصرف ماضيه ومستقبله فيه، وفي كل ما يبدو منه، وصار ظرف أحواله وأفعاله، وظاهره وباطنه، وكل ما يظهر منه، الحال الدائم الذي عرفتَ أن كل لحظة منه كالدهور من الزمان المتعارف، وكذا الدهور منه كلمحة من هذا الزمان، الغالب عليه حكم الماضي والمستقبل، ثم إن صاحب الزمان يتمكن من طي الزمان ونشره وبسط المكان و جمعه، فإنك كما تتمكن من ذلك في قوتك الوهمية، فإن هذا المتحقق بالحق يتمكن من ذلك حقيقة لا وهماً، فيتلو علوم العالمين جميعاً بلفظة واحدة،

ص: 138


1- مكيال المكارم ج1 ص 237.

مشتملة علي جميع المعاني والألفاظ، الكائنة من المبدأِ إلي المنتهي، ويُعرَض علي عينه جميع العالمين من أعيان الجواهر والأعراض، التي كانت من مبدِأ الوجود والإيجاد، والتي تكون إلي منتهاه، كل ذلك بلحظة واحدة.

وقد عرفتَ أنها من حيث حقيقتها، مشتملة علي جميع الأزمنة والأوقات، فلهذا من تحقق بمظهريتها، من حيث هي شأن من شؤون الواحدية، صار لا محالة مستعلياً علي الزمان والمكان، وحاكماً عليهما، ومتصرفاً فيهما، فيلحظ بعينه جميع الآثار والصفات والنعوت الأصلية والعارضية، وكذا الكمالات الحاصلة لتلك الآثار والمتعلقة بها، ويلحظ أيضاً المحل المعنوي الذي يحصل ذلك اللحظ فيه، وهو باطن الزمان، الذي هو حقيقته المتجلية في صورها، إنما يزيد عليها بتعيُّناها آنات وساعاتٍ وأياماً وشهوراً، وأدواراً، وأكواراً ودهوراً، والعين في الكل واحدة، وهي الطبيعة الزمانية ...

فصاحب الزمان - إن شاء - ظهر في زمان أقل من لمحة، فسمع جميع أصوات الداعين كلهم، وفهمها كلها، وعرف مفهوم سائر اللغات، التي كلها بالنسبة إليه علي السوية، لأنه مظهرها من حيث تعيُّناها في الحقيقة البرزخية، وإن شاء طوّل الزمان فظهر طويلاً ...

هذا كله من خواص صاحب الزمان، الحاكم علي الحال والزمان، والمتصرف فيه، لتحققه بمظهرية باطن الزمان وأصله، وهكذا فلتفهم، أن المتحقق بباطن الأشياء هو المتصرف فيها)(1).

ص: 139


1- لطائف الأعلام في إشارات أهل الإلهام ص 349- 351.

والغرض من نقل هذا الكلام بتمامه، هو الاطّلاع علي المعني العمين لصاحب الزمان، فما أعلاه من مقام، وما أعظمه من إمام، فزمان صاحب الزمان عجل الله تعالي فرجه، يتمتع بمزايا زمانية مذهلة، من أهمها:

1) - أصل الزمان.

2)- الحقيقة الزمانية.

3)- الباطن الزماني.

4 ) - التجلّي الزماني.

5) - التعالي علي الزمان.

6) - النفوذ في باطن الزمان.

7)- التصرف في الزمان .

8)- الحضور في الأزمان المختلفة.

9)- الخروج من حكم الزمان.

10)- القدرة علي جمع الزمان وتفريقه.

وعندما نتأمل الروايات التي تصف الزمان المهدوي بتحقق الخلافة الإلهية، نصل إلي حقيقة محيّرة وعجيبة، وهي أن الإنسان في طول الأزمان الماضية، لم يكن يتمتع بطعم الزمان ولذته، ولم يكن يعيش في حقيقة الزمان، أو يعيش في أدين حقائق الزمان وأقل مراتبه، وإنما كان يعيش في زمان الزور، الزمان المصنوع من الظلم والقهر والحرمان، زمان الفوضي واللعب واللهو، وبمعنيً آخر، زمان لا بركة فيه، ولا خير منه، وليس له قيمة، زمان أشبه شيء بالخدع السينمائية، وأما الزمان الحقيقي فهو في

ص: 140

زمن المهدي صاحب الزمان، الذي سيعيش فيه الإنسان في باطنه وحقيقته، ويسخّره ويسافر عبره، ولكن هذا الزمان هو الزمان المهدوي.

إن اللطافة هي وسيلة من وسائل هذا السفر، و الوصول إليها ممكن، واللطافة تعني الشفافية في الوجود، مثل النور الذي له حقيقة شفافة، ولذا يستطيع النفوذ في الأجسام الشفافة ويتخللها، كما يجري ذلك في الزجاج الصقول النظيف والماء الصافي و الهواء، والزمان هو من الأشياء المتعالية عن المادة، ولا يمكن اختراقه إلا بالتجرد الروحي أو اللطافة، أي التعالي.

وكل هذا باعتبار أن زمان الإمام المهدي عجل الله تعالي فرجه، هو الزمان البرزخي، أي الفاصل بين عالمين، عالَم الدنيا وعالم الآخرة، ولذا كانت له صفة استثنائية عن باقي الأزمنة، وهذه الصفة هي: العود بعد النزول، لأن الموجودات الإمكانية لها حركتان:

1)- حركة نزولية من العوالم العالية إلي العوالم السفلية، وضمن هذه الموجودات الإنسان، والعالَم السفلي له أحكام واقتضاءات تخصّه ، من هذه الأحكام والاقتضاءات: الكثرة، والتزاحم، والتضاد، والكثافة، والغواشي، هذه المقتضيات كلها في هذا العالَم السفلي النزولي، تمنع من السفر عبر الزمان.

2) - حركة صعودية وعَود: والصعود أمره يختلف تماماً، فما هو موجود في عالم النزول يتلاشي في حركة العَود والصعود، ومن أهم هذه التبدلات والتغيرات، أن الإنسان في عالم النزول يكتسب الكثافة ولكنه في عالَم العود يطرح الكثافة ويكتسب اللطافة، وهذا ما سيكون في

ص: 141

خلافة الإمام المهدي عليه السلام، نعم لهذه اللطافة مراتب مشككة، وهذا الأمر تابع لمقتضيات القوابل المختلفة، والاستعدادات المتفاوتة بين الناس.

وماذا عن الإمام المهدي عجل الله تعالي فرجه؟!.

(عدم تأثير طول الأعصار وتعاقب الليل والنهار، وسير الفلك الدوّار في بنيته ومزاجه، وأعضائه وقواه وصورته وهيأته عليه السلام، فهو بهذا العمر الطويل ... فإذا ظهر كان كابن ثلاثين أو أربعين، في حين أن أحداً من طويلي الأعمار من الأنبياء السالفين، لم ينج من سهام الشيخوخة والهرم: (إن هذا بعلي شيخاً)، ويشكو نبي آخر من ضعف الشيخوخة فيقول: «إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا ».

(روي الشيخ الصدوق عن أبي الصلت الهروي أنه قال: قلت للإمام الرضا عليه السلام: ما علامة القائم منكم إذا خرج؟ قال: علامه أن يكون شيخ السنِّ شابَّ المنظر، حتي أن الناظر إليه ليحسبه ابن أربعين سنة أو دونها)(1) .

ثانياً- مقام صاحب العصر

روي عن المفضّل بن عمر أنه قال: سألت الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام، عن قول الله عزّ وجلّ: «وَالْعَصْرِ ،إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ »، فقال: العصر عصر خروج القائم عليه السلام، وإن الإنسان لفي خسر، يعني أعداءنا)(2).

ص: 142


1- منتهي الآمال ج 2 ص 571.
2- البرهان في تفسير القرآن ج4 ص 504.

كان الحديث في النقطة السابقة حول "مقام صاحب الزمان"، ونأتي الآن إلي مقام آخر من مقاماته القدسية، وهو مقام صاحب العصر.

ما هو المقصود من العصر؟

(قيل: هو الدهر، وقال ابن عباس: ما يلي المغرب من النهار، وقال قتادة: هي ساعة من ساعات النهار، وقيل: الليلة، واليوم)(1)، وكل هذه التفاسير من جهة ظاهر الكلمة، ولكن الإمام الصادق عليه السلام، أشار في الحديث السابق عن الجهة الباطنية للكلمة، أو المعني الباطني والحفي للآية، وهو "عصر المهدي عليه السلام.

ما الذي تعنيه رمزية العصر؟ وما الذي يعنيه هذا المقام؟.

يتضح لنا هذا المقام، إذا ما حددنا معني الكلمة ومدلولها، وهل هذا الرمز يدل علي فترة زمانية وقتية؟ أم أنه يدل علي كيف زماني متعلق بالكيف الإنساني في خلافة الإمام المهدي عليه السلام؟.

الأقرب أن يكون الأمران معاً، من حيث:

- أن العصر هو فترة زمانية، لها طابع بالكيف الإنساني، من حيث

الأفعال والسلوك والأخلاق والصفات الصاعدة والمتعالية.

- أن العصر من الرموز الخاصة للإمام المهدي عليه السلام، والعصر المهدوي سوف يكون له كيفُه الخاص، كيفٌ متعالٍ في كل أبعاد الوجود ومراتبه، من أدناها إلي أعلاها.

لماذا أُطلق هذا الاصطلاح دون غيره؟ .

ص: 143


1- لسان العرب ج4 ص 662.

من القضايا المطروحة علي بساط علم الاجتماع اليوم، أن التاريخ البشري يمر بمراحل مثل مراحل الإنسان الفرد، فكما أن الإنسان الفرد يمر بمرحلة الطفولة والصِّبا والمراهقة والشباب والرجولة والشيخوخة والكهولة والهرم، والأمر نفسه كذلك بالنسبة إلي المراحل الزمانية والأوقات اليومية، في كل مرتبة من مراتبه، وفي كل حقيقة من حقائقه، وفترة من فتراته، يمر اليوم . مراحل هي أشبه شيء بمراحل الإنسان أيضاً، وهذه المراحل هي:

) - الفجر والصبح - الطفولة المبكرة.

ووجه التقارب بين المرحلتين، هو من حيث الصفاء بكلا الزمانين. 2) - الظهر - المراهقة وبعض فترات الشباب المضطربة.

ووجه التقارب هو من حيث الحرارة الغريزية والتهاب القوة الشهرية وسخونة الطباع.

3)- العصر - الشباب المتزن والناضج، ومرحلة الرجولة في سن الأربعين.

ووجه التقارب هو من حيث التعقل، ورجحان القوة العاقلة والطباع المعتدلة، واتّزان الصفات والملكات، وبداية رحلة العود.

4) - المغرب - الشيخوخة الأولي.

ووجه التقارب هو من حيث ظهور الضعف، وغروب القوي الجسمانية، من السمع والبصر والجوارح.

5- الليل = الكهولة.

ووجه التقارب هو من حيث السكون اللّيل، والسكينة للكهولة،

ص: 144

والخلود إلي الراحة.

إذا دقّقنا النظر جيداً في هذا التقسيم، وتمعنّا في أوجه هذه المقارنة نجد أن العصر هو فترة بين فترات زمانية مختلفة و متضادّة، وأنها تفترق عن كل الفترات تماماً، والاختلاف هو في الطابع أو كما يقال لها في الحيثيات لكل زمان وفترة.

كذلك هو التاريخ البشري، فأزهي وأقوي وأجمل وأكمل مرحلة من مراحله، هي مرحلة العصر البشري من عمر التاريخ، وهذه المرحلة والفترة مختصة بصاحب العصر، وهو الإمام المهدي عليه السلام، وعصره يعتبر حلقة وصل بين عالَم الدنيا وعالَم الآخرة، وتتصل دولته عليه السلام بالقيامة، برجعة سائر الأئمة عليهم السلام، وذُكر أن الإمام الصادق عليه السلام، كان يكثر من الترنم بهذا البيت:

الكل أناسٍ دولةٌ يرقبونها *** ودولتنا في آخر الدهر تظهر(1)

والملفت اليوم، تلك الدعايات المغرضة والكاذبة، التي تبثّها وسائل الإعلام المقروءة منها والمسموعة والمرئية، أن هذا القرن هو العصر الذهبي للحضارات، وهذا ادّعاء باطل من أساسه، لأن هذا العصر إن هو إلا عصر الصدأ والرين، عصر التلكس، وعصر المرَقَة، والنفايات النووية، والإشعاعات الذرية، عصر الخوف والرعب والإرهاب.

وأما العصر الحقيقي الذي ترتفع فيه جميع هذه الأمراض والأخطار والخوف، فهو عصر لا يمكن أن يوصف إلا بأنه العصر المهدوي المحمدي

ص: 145


1- الإيقاظ من الهجعة في البرهان علي الرجعة ص 341.

الإلهي.

حقائق العصر المهدوي

اشارة

يتميز عصر الإمام المهدي عجل الله فرجه، عن غيره من الأزمان والفترات، بانكشاف الحقائق والدقائق والرقائق، وينفرد العصر المهدوي بتجلّي الخفايا وظهور الغيب وبروز البواطن، والسبب في ذلك يرجع إلي أمرين مهمين:

أولهما: العصر البرزخي.

البرزخ: هو الحد الفاصل بين شيئين، فالعصر المهدوي يمتاز بالبرزخية الزمانية، أي العصر الفاصل بين عالَمين متناقضين هما: عالَم الدنيا وعالَم الآخرة، وفي هذا العصر البرزخي حقيقتان، هما تعلق بشؤون الإمامة ومظهر الولاية، وهما:

الأولي - قيام القيامة الصغري وذلك عن طريق الرجعة، خصوصاً إذا علمنا أن سورة العصر تخص الإمام المهدي كما جاء ذلك في الخبر المروي عن الإمام الصادق عليه السلام، وفي هذه القيامة ترجع أفواجٌ وأقوامٌ إلي الدنيا، ويحاسَبون في هذه القيامة الصغري قبل القيامة الكبري والعامة، التي هي شأن من شؤون الآخرة، وعلي رأس الذين يرجعون، النبي محمد صلي الله عليه وآله وسلم، وأهل البيت عليهم السلام، و كل من ظلم أهل البيت أو غصب حقهم، سوف يرجع وينال عقابه الدنيوي، قبل العقاب الأخروي.

(عن ابن أبي عمير عن حماد، عن أبي عبد الله عليه السلام، أنه قال:

ص: 146

ما يقول الناس في هذه الآية: «وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا » قلت: يقولون: إنها في القيامة، قال: ليس كما يقولون، إن ذلك في الرجعة، يحشر الله من كل أمة فوجاً ويدع الباقين، إنما آية يوم القيامة قوله: « وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا »(1).

عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله تعالي: «وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا »، قال: ليس أحد من المؤمنين قُتِل إلا سيرجع حتي يموت، ولا أحد من المؤمنين مات إلا سيرجع حتي يُقتَل)(2).

( قال أبو عبد الله عليه السلام، في قول الله عزّ وجلّ: «إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَي مَعَادٍ »، قال: نبيكم راجع إليكم)(3).

(ذُكر عند أبي عبد الله عليه السلام جابر فقال: رحم الله جابراً، لقد بلغ من علمه أنه كان يعرف تأويل هذه الآية: «إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَي مَعَادٍ »، يعني الرجعة(4)).

(عن أبي خالد الكابلي عن علي بن الحسين عليهما السلام في قوله تعالي: «إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَي مَعَادٍ »، قال: يرجع إليكم نبيكم صلي الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين والأئمة عليهم السلام)(5).

وهذه الرجعة، هي ما يمكن أن نطلق عليها: "القيامة الصغري"، أو

ص: 147


1- البرهان في تفسير القرآن ج 6 ص 36.
2- البرهان في تفسير القرآن ج6 ص 39.
3- المصدر السابق ص 101.
4- المصدر السابق ص 100.
5- المصدر السابق.

"الحشر الأصغر"، في قبال القيامة الكبري والحشر الأكبر .

الثانية - تحقق جنة الولاية والإمامة قبل جنة القيامة، وهذا من معاني العصر البرزخي.

إن الأرض والسماء والفضاء سيشهدون نقلة نوعية علي المستويين: العمومي والشمولي معاً، وستحقق للإنسانية جنة الأرض، الجنة الأرضية، ببركة الإمامة وأنوار الولاية، وهذا ما أشارت إليه بعض الروايات، حيث ستنعم الأرض بنعمة في خلافته وعصره عليه السلام، لم تنعم بمثلها من قبل، وفي مقدمة هذه النعم، توفر المياه في الأنهار بطعم عذب بارد ونقي طيب، وتوفر الأشجار التي تتدلّي منها الثمار، وتلبس الطبيعة ثوباً أخضر من العشب يسر الناظرين، وحلول التعايش السلمي، والتخلص من جميع الأمراض البدنية والنفسية والاجتماعية، فتكون هذه الجنة مستنسخة من جنة الآخرة، أو صورة قريبة منها، من خيراتها وطيبها ونعمها، وطول الأيام والأعمار، ومضاعفة القوي الجسمانية والبدنية الظاهرية، من السمع والبصر والجوارح، والقوي الباطنية، من الخيال والهمة والتصور والإرادة والعزيمة.

(عن المفضل بن عمر، أنه سمع أبا عبد الله عليه السلام يقول في قوله تعالي: («وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا » ، قال : ربُّ الأرض: يعني إمام الأرض، قلت: فإذا خرج يكون ماذا؟ قال: إذن يستغني الناس عن ضوء الشمس ونور القمر، ويجتزون بنور الإمام)(1) .

ص: 148


1- البرهان في تفسير القرآن ج6 ص 565.

(من هنا فإن ظهور المهدي يعتبر محطة كبري لقربه من العالَم الآخر، من مسيرة الوجود الأوسع في السير نحو القيامة، والمنزلة الهائلة من عالَم الله تعالي)(1).

إن ظهور جنة الإمامة في العصر البرزخي - المهدوي، أمرٌ ناشئٌ من مظهريتهم عليهم السلام للأسماء الإلهية، فقد ورد عنهم: ( "نحن الأسماء الحسني"، وقال صلي الله عليه وآله وسلم: "لا اسم أعظم مني"، وقال: "أنا اسم الله الأعظم" )(2).

وهذا الظهور هو علي المستوي الجزئي، وليس علي المستوي الكلي، والسبب في ذلك ضيق الدنيا، فكما هو محقق عند أهل العرفان، أن الدنيا بكاملها لا تتسع لظهور حقيقة باطن إنسان واحد، سواء في هذا الأمر الحقيقة النورية أو الحقيقة الظلمانية، فكيف يسع وعاؤها حقيقة الإمامة و باطن الولاية؟ نعم يمكن أن نكتشف من بعض الروايات، أو نشتَمَّ من بعض الأخبار، أن الوعاء الدنيوي سيكون له اتّساع أكثر، لكي تكون له القابلية في تلقي هذا التغير الكبير، الذي لا نظير له ولا مثيل ولا شبيه.

وما رجعة أهل البيت عليهم السلام في الحقيقة إلا لتحقيق هذا النوع من الجنة، وتحقيق مرتبة من مراتبها، كما تتحقق بالرجعة أيضاً مرتبة من مراتب العذاب، يطلق عليها القرآن الكريم صفة "العذاب الشديد"، حيث ينتقمون من أعدائهم ومبغضيهم وغاصبي حقهم، وأما في الآخرة فُيرَدّون

ص: 149


1- ما قبل نهاية التاريخ ص 29.
2- التكوين والتجلّي ص 54.

إلي مرتبة من العذاب أعظم، يطلق عليها القرآن الكريم صفة: "أشد العذاب".

قال تعالي: «وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَي أَشَدِّ الْعَذَابِ »(1) ، وقال عزّ من قائل: «وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَي »(2) ، وقال سبحانه:« إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ» (3)، وقال تعالي: « وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ »(4) .

عندما نزل قوله سبحانه وتعالي : «ِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ »(5)، قال رسول الله صلي الله عليه و آله وسلم: (هؤلاء اليهود نقضوا عهد الله، وكذّبوا رسل الله، وقتلوا أولياء الله، أفلا أنبئكم بمن يضاهئهم من يهود هذه الأمة؟ قالوا بلي يا رسول الله، قال: قوم من أمتي، ينتحلون أنهم من أهل ملتي، يقتلون أفاضل ذريتي وأطايب أرومتي، ويبدلون شريعتي وسنتي، ويقتلون ولديّ الحسن والحسين، كما قتل أسلاف هولاء اليهود زكريا ويحيي، ألا وإن الله يلعنهم كما لعنهم، ويبعث علي بقايا ذراريهم قبل يوم القيامة هادياً مهدياً، من ولد الحسين المظلوم، يحرفهم بسيوف أوليائه إلي نار جهنم)(6).

ص: 150


1- سورة البقرة الآية 85.
2- سورة طه الآية 71.
3- سورة آل عمران الآية 4.
4- سورة إبراهيم الآية 2.
5- سورة البقرة الآية 86.
6- البرهان في تفسير القرآن ج 1 طبع قم.

(عن زيد الشحام عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "العذاب الأدني دون العذاب الأكبر" الرجعة)(1).

(عن زيد الشحّام عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "العذاب الأدبي" دابة الأرض)(2).

(عن الصادق عليه السلام، عن علي عليه السلام، قال: قال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: يا علي، إن قائمنا إذا خرج، يجتمع إليه ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً عدد رجال بدر، فإذا حان وقت خروجه يكون له سيف مغمود، ناداه السيف: قم يا ولي الله فاقتل أعداء الله)(3).

وفي رواية أخري: (فإذا اجتمعت له هذه العدة من أهل الإخلاص، أظهر أمره، فإذا اكتمل له العقد وهو عشرة آلاف رجل، خرج بإذن الله عزّ وجلّ، فلا يزال يقتل أعداء الله حتي يرضي الله عزّ وجلّ، قال عبد العظيم: فقلت له يا سيدي و كيف يعلم أن الله قد رضي؟ قال: يلقي في قلبه الرحمة)(4).

هذا من جهة العذاب والانتقام من أعدائهم، وأما الروايات التي تصف لنا جنة الإمامة ونعيم الولاية، فمنها:

(عن المفضل بن عمر عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: كأني بسرير

ص: 151


1- بحار الأنوار ج 53 ص 114.
2- بحار الأنوار ج53 ص 114.
3- المصدر السابق ج52 ص 304.
4- المصدر السابق ص 283.

من نور قد وضع، وضربت عليه قبة من ياقوتة حمراء، مكلّلة بالجوهر ، وكأني بالحسين عليه السلام جالساً علي ذلك السرير، وحوله تسعون ألف قبة خضراء، وكأني بالمؤمنين يزورونه ويسلمون عليه، فيقول الله عزّ و جلّ لهم: أوليائي سلوني، فطالما أوذيتم وذللتم واضطهِدتم، فهذا يوم لا تسألوني فيه حاجة من حوائج الدنيا والآخرة إلا قضيتها لكم ، فيكون أكلهم وشربهم من الجنة، فهذه والله الكرامة)(1).

فهذا يؤكد ما قلناه من جنة الإمامة في الرجعة، ويعلق المجلسي علي هذا الخبربقوله: (بيان: سؤال حوائج الدنيا يدل علي أن هذا في الرجعة، إذ هي لا تُسأل في الآخرة)(2).

وإذا رجعنا إلي قصة النبي نوح عليه السلام مع قومه، نجد التبشير بهذه الجنة أمراً واضحاً في كلماته ودعوته: «فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا ،يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا ، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا » (3).

وهذه الجنات ستتحقق في العصر المهدوي "العصر البرزخي"، ويمكن أن نطلق عليه أيضاً "العصر المثالي" و "العصر المتعالي".

فسلام عليك يا صاحب العصر، عجل الله فرجك وسهل مخرجك. يقول الله سبحانه وتعالي في القرآن الكريم: «وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ

ص: 152


1- بحار الأنوار ج 53 ص116.
2- المصدر السابق.
3- سورة نوح الآيات: 10-12.

رَبِّهَا ».

ثانيهما - تحقق عصارة عالَم الإمكان

يقول الإمام الخميني قدس سره في قوله تعالي «وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ » : (العصر : هو الإنسان الكامل، وهو صاحب الزمان سلام الله عليه، أي عصارة جميع الكائنات، والقسم بعصارة جميع الكائنات، أي القسم بالإنسان الكامل(1)).

ما هو المقصود من عصارة عالَم الإمكان؟

العصارة: هي الخلاصة من الشيء، والمقصود من العصارة في هذا المقام،وصول الموجودات بجميع مراتبها إلي منتهي كمالها الإمكاني، كل علي حسب قابليته و سعته الوجودية، وعندما نقول: الكل، لا يخرج من هذه الكلية أحد، ولا يشذ عن هذه القاعدة موجود، لأن الخلافة المهدوية ليست خلافة أرضية، أي علي الأرض فقط، وإنما هي خلافة علي كل الموجودات المادية والمحردة، من الملك إلي الملكوت.

عودٌ علي بدء:

ونعود إلي السؤال الذي بدأنا منه، وهو: هل العصر هو صفة خاصة بالإمام؟ أم أنه خصوصية لزمانه؟

باعتبار أن هناك من يقول أن العصر هو الإمام عليه السلام، وهناك من يقول أن العصر رمزٌ لزمانه، ولكنني أجمع بين القولين وأقول أن العصر هو مخصوص بالإمام وزمانه، وانعكاس مكاسب هذا المقام علي أهل زمانه

ص: 153


1- منهجية الثورة الإسلامية ص 218.

وعلي جميع الموجودات في خلافته عليه السلام، بما في ذلك أنواع السباع والبهائم، ومجموعات الطيور والزواحف، وأصناف الحجر والشجر.

والذي يقوي هذا الجمع، الروايات التي تقول أن الناس تستغني بنوره في يوم ظهوره عن نور الشمس والقمر، والروايات التي تصف اصطلاح السباع مع البهائم، أي اجتماع الأضداد أو ارتفاعها.

(استغناء العباد بنوره عليه السلام عن نور الشمس والقمر، وقد جاء في تفسير الآية الكريمة: «وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا »، أن مربي الأرض هو إمام الزمان عليه السلام)(1).

(انتفاء النفور والاستيحاش من بين الحيوانات بعضها من البعض الآخر، وبينها وبين الإنسان، وارتفاع العداوة من بين الجميع، كما كان الأمر قبل مقتل هابيل.

ويروي عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله: إذا قام قائمنا .. ولذهبت الشحناء من قلوب العباد، واصطلحت السباع والبهائم، حتي تمشي المرأة من العراق إلي الشام، لا تضع قدمها إلا علي النبات، وعلي رأسها زنبيلها لا يهيجها سبع ولا تخافه)(2).

لماذا يتحقق كل هذا للإمام المهدي عليه السلام؟.

والجواب: لأنه شبيه جده رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم خَلقاً ولقا، (قال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: المهدي من ولدي اسمه

ص: 154


1- منتهي الآمال ج 2 ص 573.
2- المصدر السابق ص 572.

اسمي وكنيته كنيي، أشبه الناس بي خَلقاً وخُلُقاً)(1).

ومن خصائص الحقيقة المحمدية الضياء والنور، (يقول أنس بن مالك: لما دخل رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم المدينة، أضاء منها كلُّ شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه، أظلم منها كل شيء)(2).

وكذلك سيكون الأمر مع ولده، الحجة المهدي صاحب العصر، سيضيء العالَم بنوره، وسيتعالي بقدسه، وسيز كو ببركته وكماله وجماله، وسوف يتحقق في عصر خلافته عليه السلام، كل ما تطمح إليه الإنسانية، مما تتقبله مهمة الدنيا وقابلية عالَم الإمكان.

ومن المحتمل أن بعض الروايات تشير إلي هذا المعني، وخاصة الرواية التي تصف لنا الإمام المهدي عليه السلام، بأنه نور في وسط أنوار أهل البيت عليهم السلام، (وذلك عندما رأي النبي صلي الله عليه وآله وسلم أنوارهم في رحلة المعراج، رأي نور المهدي عليه السلام في وسطهم كأنه الكوكب الدرّيّ وسطهم)(3).

ملامح العصر المهدوي

اشارة

عندما نقوم بقراءة شاملة لنصوص الأخبار الكثيرة التي تصف ملامح العصر المهدوي، نري أن هذه النصوص والروايات قد ركّزت علي أمرين هامين:

ص: 155


1- مكيال المكارم ج1 ص 294.
2- ينابيع المودة ج3 ص61.
3- مكيال المكارم ج1 ص 328.

الأول: تحقق العدل والأمن

النصوص والأخبار التي جاءت عن النبي صلي الله عليه وآله وسلم، وأهل بيته عليهم السلام، تفيد أن هذه الأرض، لن تنعم بالعدل الكامل، ولن يتحقق فيها الأمن العام، إلا في العصر المهدوي، كما جاء: (سيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً).

وبين العدل والأمن تلازم متين وترابط واضح، فحيثما وجد العدل تحقق الأمن، وحيثما تحقق الأمن انبسط العدل، وللأمن فروع كثيرة، ولكن أصله في الذات الإنسانية، ومن فروعه:

1- الأمن الأنفسي: أي أن يأمن الإنسان شرَّ نفسه، فلا يظلمها بالمعاصي والذنوب.

2- الأمن الأسري: فلا خوف في الأسرة.

3- الأمن الاجتماعي: فلا يظلم القوي الضعيف، ولا يأكل الغني حق الفقير، ولا يتعدي الوصي علي مال اليتيم.

4- الأمن السياسي: فلا يجور الحاكم ولا يظلم، ولا يتعدي علي كرامة الشعب وحريته واختياره.

5- الأمن الاقتصادي: أي انتفاء الربا والغش في البيع، وارتفاع الاحتكار، وليس في خلافة المهدي تضخم مالي، وتداول المال بين الأغنياء وحرمان الفقراء، بل يرتفع الفقر بكل أنواعه.

6- الأمن الحيواني: كما سلف وأن مرّ عليك من أن الحيوانات في صلح وتعايش مع بعضها ومع الإنسان.

ص: 156

7- الأمن الزراعي: حيث لا آفات زراعية، ولا فساد للثمار، بل نموٌّ و جنانٌ معروشات، وذلك بسبب نقاء الهواء، وصفاء الماء، وسلامة الفضاء.

8- الأمن الجوي: فلا تلوّث ولا سموم، ولا روائح كريهة تنبعث من المصانع والمعامل، أو بسبب السيارات والطائرات، وغير ذلك من ملوثات الجو.

9- الأمن البحري: فلا تعديَ علي البحار برمي أو دفن القاذورات والنفايات فيها، الأمر الذي يؤدي إلي اختلال ميزان الطبيعة بسبب الجشع والطمع .

10 - الأمن من الجن: وذلك باعتبار ( وجود الملائكة والجان في عسكره عليه السلام، وظهورهم كأنصار له)(1)، ولكونهم ظاهرين عيانأ للناس بارتفاع الحجاب.

11- الأمن من الشرور والأمراض والكوارث: (قال الإمام الصادق عليه السلام: وتزول كل عاهة عن معتقدي الحق من شيعة المهدي، فيعرفون عند ذلك ظهوره بمكة فيتوجهون لنصرته، وتطوي لهم الأرض، ويذلل لهم كل صعب)(2).

وعن قوله تعالي: « وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُيي الأرض بعد متها»، قال الإمام الباقر عليه السلام: (يحييها الله بالقائم عليه السلام، فيعدل فيها،

ص: 157


1- منتهي الآمال ج 2 ص 571.
2- المهدي المنتظر حقيقة أم خرافة ص 664.

فيحيي الأرض بالعدل بعد موها بالظلم)(1)، و(عن ابن عباس في قوله تعالي "واعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها"، يعني يصلح الله الأرض بقائم آل محمد صلي الله عليه وآله وسلم، و "بعد موتها": يعني بعد جور أهل مملكتها)(2)، و (عن الحلي أنه سأل أبا عبد الله عليه السلام، عن قول الله عز وجل: "واعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها"، فقال عليه السلام: العدل بعد الجور)(3).

الثاني: ظهور الخيرات و نزول البركات

(عن الحسن بن علي بن أبي طالب عن أبيه عليه السلام، قال: يبعث الله رجلاً في آخر الزمان، و كَلبٍ من الدهر، وجهلٍ من الناس، يؤيده الله بملائكته ويعصم أنصاره، وينصره بآياته ويظهره علي الأرض، حتي يدينوا طوعاً أو كرهاً، يملأ الأرض عدلاً وقسطاً ونوراً وبرهاناً، يدين له عرض البلاد وطولها، لا يبقي كافرٌ إلا آمَنَ، ولا طالحٌ إلا صلح، وتصطلح في ملكه السباع، وتخرج الأرض نبتها، وتنزل السماء بركتها، وتظهر له الكنوز، يملك ما بين الخافقين)(4).

وفي خبر آخر: ( فعند ذلك تفرّخ الطيور في أوكارها، والحيتان في بحارها، وتُمَدَ الأنهار وتفيض العيون، وتنبت الأرض ضعف أكُلِها، ثم

ص: 158


1- ينابيع المودة ج3 ص 84.
2- مكيال المكارم ج1 ص 129.
3- مكيال المكارم ج 1 ص 130.
4- بحار الأنوار ج 52 ص 280.

يسير، مقدمته جبرائيل وساقُته إسرافيل، فيملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً)(1).

وهذه النصوص والأخبار تقوّي ما قلناه سابقاً، من اتّساع حقيقة الدنيا لكي تتناسب مع طورها المهدوي.

والخير في خلافة صاحب العصر شامل وعام، لا يخص طبقة دون أخري، كطبقة الحكام والوزراء والأمراء، والعلماء ورجال الدين، ممن يستأثرون بالحقوق العامة علي أنفسهم ووجاهتهم وشهواتهم وذواتهم، أو علي من يرغبون ويهوون، كما هو الحال في صرف الحقوق المالية، أو في صرف الحكام للثروات الوطنية العامة من كنوز الأرض وخيرات البلاد من النفط أو الغاز أو الكبريت وغيرها.

في العصر المهدوي كل هذه الخيرات هي ملك للجميع، وتصرف علي كل الموجودات، بل هناك بعض النصوص تؤكد أن الغني يدور بزكاته ويبحث عمن يأخذها، ويطلب من يوصله بأخذها وقبولها فلا يجد أحداً، ولذا تعم الفرحة جميع الموجودات، ويغمر الاطمئنان والاستئناس كل المخلوقات أحياءً وأمواتاً، يقول الإمام الصادق عليه السلام: (ولا يبقي مؤمن إلا دخلت عليه الفرحة في قبره)(2).

ثالثاً- مقام صاحب الأمر

اشارة

قسم القرآن الكريم في الكثير من آياته عالم الإمكان إلي قسمين:

ص: 159


1- بحار الأنوار ج 52 ص 204.
2- المهدي المنتظر حقيقة أم خرافة ص 665.

1) - عالَم الخلق: وهو عالَم الملك والشهادة والظاهر .

2) - عالَم الأمر: وهو عالَم الملكوت والغيب والباطن.

قال تعالي: « أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ »(1) .

(العالَم: الخلق كله، قال ابن سينا: العالَم بالمعني العام: مجموع ما هو موجود في الزمان والمكان، أو مجموع الأجسام الطبيعية كلها، من أرض وسماء، ويطلق العالَم بالمعني الخاص علي جملة موجودات من جنس واحد، كما قال ابن سينا: يقال عالَم لكل حملة موجودات متجانسة، كقولهم: عالَم الطبيعة، وعالَم النفس، وعالَم العقل، ومن قبيل ذلك قولنا: العالَم الخارجي، أو العالَم الحسي، وهو: مجموع الأحوال النفسية المدرَكة بالشعور، والفلاسفة والقدماء يفرقون بين العالَم السفلي، أي عالَم الكون والفساد، والعالَم العلوي، أي عالَم الأفلاك وما فيه من العقول والنفوس والأجرام، فالأول عالَم الملك والشهادة والخلائق، وهو العالَم الذي وٌجد بمادّة، والثاني عالَم الملكوت والغيب، وعالَم الأمر عندهم ضد عالَم الخلق)(2).

و الجملة الأخيرة يوضحها لنا أحد العلماء فيقول: (عالَم الملك: هو عالَم الخلق الذي يقع فيه الانقلاب والاختلاف وتبدل الحالات، وتظهر فيه فاعليات جميع أصناف الموجودات بخلاف عالَم الملكوت وعالَم الأمر،

ص: 160


1- سورة الأعراف الآية 54.
2- المعجم المعين ص493.

فإنهما عالم البساطة، لا انقلاب فيه ولا اختلاف، ولا تبدل ولا تحوّل)(1)، ويقول في موضع آخر: ( فالمراد بعالَم الأمر: عالَم شيئية الشيء، مع قطع النظر عن تمام إضافاته، ومن ذلك عُلِم وجه تسميته بعالَم المفاتيح وعالَم الملكوت، لأنه مفتاح تمام العوالم ، وله العز والسلطان)(2).

يعتبر عالَم الحلق حلقة صغيرة بالنسبة إلي عالَم الأمر، بل قطرة من البحر، وعالَم الأمر محيط بعالَم الخلق، ومع أن عالَم الخلق هو ما يقع تحت قدرة الحواس وسلطتها، إلا أنه عالَم واسع ولا حدَّ لحدوده وسعته، ولا يمكن أن يستهان به ولا أن يقلل من شأنه، لأنه من آيات الله، ومثال لما فوقه من العوالم المجرّدة، حيث يعتبر عالَم الخلق آخر تنزلات العوالم من مرتبتها العالية، وإلي أن يصل إلي عالَم التصور، أو الصور والتعيينات.

(تصوير الشيء: تنزيله من عالَم الإجمال إلي عوالم التفصيل وإعداد استعداداته للتأثير والتأثر، مثل تنزيل النفس إلي القوي، وإعداد القوي لإظهار آثارها)(3).

هذا هو عالَم الخلق، وهو مما لا شك فيه عالَمٌ محيّرٌ ومدهشٌ وعظيم، مع أنه أقل العوالم الوجودية الإمكانية مرتبة، إلا أنه يتمتع بالإبداع، ويتصف بالجمال، وتلمس الغاية منه في كل ذرة من ذراته، وهو عالَم تكتنفه الأسرار وتحيط به الألغاز، وذلك علي رغم ظهوره وتعينه و تحسده

ص: 161


1- شرح الأسماء الحسني ص 202.
2- المصدر السابق ص201.
3- شرح الأسماء الحسن ص 125.

ولبسه الصور، فالعلماء مع باعهم الطويل في العلوم و في الاكتشافات، لم يفتحوا من أبوابه إلا القليل، وبقيت أمامهم أبواب موصدة ومغلقة ومقفلة لا عدلها ولا حصر، فعالَم الخلق فاق كل التوقعات والتصورات البشرية، لأنه عالَم عظيم وإن كان أقل العوالم وأصغرها.

وأما عالَم الأمر، فهو عالَم الدهش والحيرة، هو عالَمٌ فوق الحدود والقياس والحواس، عالَم الإحاطة والتجرد.

ما هو عالَم الأمر؟

(قيل: عالَم الأمر ما لا يدخل تحت المساحة والمقدار)(1)، وقيل: عالَم الخلق عالَم تدريجي، وعالَم الأمر عالَم دفعي، ف (صاحب الأمر هذا هو ذو نفس مكتفية، والنفس المكتفية محل مشيئة الله وأمره، قائم مقام أمر الله، وبذلك دريت سرَّ كون الإمام صاحب العصر والزمان المهدي المنتظر صلوات الله وسلامه عليه موصوفاً بصاحب الأمر)(2).

آيات قرآنية في حقيقة الأمر:

1) - «وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي »(3) .

2) - « حَتَّي جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ»(4).

3) -«وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ »(5).

ص: 162


1- كشاف اصطلاحات الفنون ج3 ص 340.
2- سرح العيون ص 738.
3- سورة الإسراء الآية 85.
4- سورة التوبة الآية 48.
5- سورة مريم الآية 39.

4) - « وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا »(1)

5 )- « فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ »(2).

ومن هنا، فإنه تجب طاعة أولي الأمر، كما تحب طاعة الله ورسوله، قال تعالي: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ »(3).

ويتصف أولوا الأمر بصفتين أساسيتين وهما:

1- العلم: أي أهم الأعلم، قال تعالي: « وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَي الرَّسُولِ وَإِلَي أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ »(4).

2- العصمة: باعتبار أن طاعتهم مظهر طاعة الله عزّ وجلّ، ولو لم يكونوا معصومين لوقع الخلف والتناقض في الآية، وذلك حيث أن الله أمرنا بطاعته وطاعتهم، وإذا أطعنا من ليس بمعصوم، فحيث أمرنا بالمعصية والحرام وقع التناقض، من حيث أمر الله باجتناب المعصية والابتعاد عن الحرام، وحيث أمر بطاعة أولي الأمر مطلقاً - كما هو المستفاد من الآية - وجب - للابتعاد عن هذا المحذور- أن يكون أولوا الأمر معصومين، ولا يدخل في هذا الإطار والمضمون كل من هبّ ودبّ.

(عن سليم بن قيس قال: سمعت أمير المؤمنين عليه السلام يقول: إنما

ص: 163


1- سورة الأحزاب الآية 38.
2- سورة غافر 78.
3- سورة النساء الآية 59.
4- سورة النساء الآية 83.

الطاعة الله عزّ وجلّ وللرسول ولولاة الأمر، وإنما أمر بطاعة أولي الأمر لأنهم معصومون مطهَّرون، ولا يأمرون بمعصية)(1).

و مقام صاحب الأمر له مظهران أساسيان وهما:
المظهر الأول: القدرة علي الحشر الجمعي

إن معني أن تُحشَر الأشياء إلي الإنسان، أنه أطاع ربه إلي درجة قد أصبح معها صاحب أمر تكويني لا يخالف المنقول والمعقول، بدليل أن الله تعالي قد جعل له حجة في الأرض، إن العالَم لن يُحشَر إلي الله تعالي حشراً شرعياً- كما أخبر الله تعالي – إلا بعد أن يُحشَر إلي حجته وبقيته في أرضه)(2)، وقد أخبر الله تعالي أن هذا الحشر قد تحقق لنبيه سليمان عليه السلام، قال تعالي: «وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ »(3).

كيف وصل النبي سليمان عليه السلام إلي هذه الرتبة؟

والقرآن الكريم يعطينا الجواب بقوله تعالي: «وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ (4)».

فإذا كان النبي سليمان عليه السلام، قد أعطي مقام القدرة علي الحشر الجمعي التكوين لأنه ورث أباه النبي داوود عليه السلام، فكيف لا

ص: 164


1- علل الشرائع ج1 ص 149.
2- التحقق الوحودي ص 169.
3- سورة النمل الآية 17.
4- سورة النمل الآية 16.

يتحقق هذا المقام بأعلي مراتبه وأكمل مظاهره لمن ورث جميع الأنبياء، وعلي رأسهم النور الأول محمد صلي الله عليه وآله وسلم، ومن لديه جميع العلوم و مفاتيح الملك والملكوت؟.

بل سيعطي الإمام المهدي عليه السلام، هذا المقام - الحشر الجمعي للأشياء-أوسع مما أعطي للنبي سليمان عليه السلام، أولاً، باعتبار أن سعة الإمام المهدي الوجودية أكبر من سعة النبي سليمان عليه السلام، وثانياً، لاختلاف دور الإمام عليه السلام عن دور النبي عليه السلام، (وآية "وحشر لسليمان .." تفيد معني وحقيقة أن يُحشَر هذا العالَم إلي الإمام عجل الله تعالي فرجه، بعد أن تبين لنا أن النبي سليمان، قد أوتي من كل شيء، وآية " من كل شيء" لا تعني استثناء شيء من الأشياء، وإنما هي تعني الحشر الجمعي للأشياء)(1).

المظهر الثاني : ظهور الحقائق الوجودية

ومن ضمن مراتب هذا الحشر للأشياء، ظهور حقائقها الوجودية، من رتبة الغيب إلي رتبة الشهادة، (عن أبي جعفر عليه السلام: إنما سمّي المهدي، لأنه يهدي إلي أمر خفي، حتي أنه يبعث إلي رجل لا يعلم الناس أن له ذنباً فيقتله، حتي أن أحدهم يتكلم في بيته فيخاف أن يشهد عليه الجدار)(2).

و يهدي إلي أمر خفي: أي ينكشف له ما خفي عنهم، من الصور

ص: 165


1- التحقق الوجودي ص 170.
2- تاريخ الكوفة ص 100 - مكيال المكارم ج 1 ص 208.

والحقائق الملكوتية للأشياء والموجودات والأعمال والصفات، وترتفع الحجب وتزول الموانع عن القلوب والعقول، (عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إنما سمّي القائم مهدياً، لأنه يهدي إلي أمر مضلول عنه)(1)، ومما يؤكد هذه الحقيقة، حديث رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم، قال: يكون في أمتي فزعة، فتصير الناس إلي علمائهم فإذا هم قردة وخنازير، قد عوقبوا بنظير ما فعلوا من تغيير الحق عن جهته، وتحريف الكلام عن مواضعه، مسخ الله صورهم وغيّر خلقتهم، كما بدّلوا الحق باطلاً)(2).

- (وقيل أن إمام الزمان بما أنه الولي، فعند ظهوره تظهر الولاية، وتظهر الحقائق وتختفي الصورة، ومازالت المدارس حتي يومنا هذا تدرس عالم الظاهر، وكانت الحقائق مخفية، ذلك لأن العصر كان عصر النبوّة، والنبوّة هي الظاهر، وحيث أن النبوّة تنتهي ويبدأ عصر الولاية، يبدأ معها بيان وظهور الحقائق، فتبدأ المدارس عندها بتدريس حقيقة الإسلام، وحقيقة الصلاة، وحقيقة الصوم، وحقيقة الحج، وحقيقة الجنة وحقيقة النار، وحقيقة الثواب، وحقيقة العقاب، وحقيقة الصراط.

عن الشيخ سعد الدين الحموي أنه قال: لن يخرج المهدي عجل الله فرجه حتي يسمع من شراك نعله أسرار التوحيد)(3).

هذه الحقائق لا يحتملها إلا القليل من المؤمنين، الذين محضوا الإيمان

ص: 166


1- مكيال المكارم ج 1 ص 104.
2- المهدي المنتظر ص 656.
3- حقيقة الإمامة ص 38.

محضاً، وربما الحديث الذي يقول: إن أمرنا صعب مستصعب لا يحتمله إلا بي مرسل أو مَلكٌ مقرّب، أو مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان، يشير إلي هذه الحقيقة، فحقائقهم وأسرارهم يصعب الوقوف عليها، وإدراكها بالقوي العاديّة، بل تحتاج إلي قويً عقلية وقلبية ووجودية، عالية في القداسة والرتبة.

ص: 167

ص: 168

الفصل السادس : فلسفة الغيبة ومراتب الانتظار

اشارة

ص: 169

ص: 170

لم تسلم حقيقة الإمام المهدي عليه السلام الحقيقة المهدوية - من التشكيك والطعن والإسقاط، لذا فقد رميت بسهام الجهّال، ونبال أهل الضلال، وعلي الخصوص من جهة أنصاف العلماء، فحظها من هؤلاء كحظ الحقائق العليا،كالحقيقة المطلقة (الحقيقة الإلهية- وجود الله سبحانه)، فكم واجهت هذه الحقيقة من شكوك الزنادقة، وصمدت أمام أراجيف الجاهلين، والتي منها: أين الله؟ و كيف هو؟ ولماذا لا تراه العيون؟ ... إلخ.

عن محمد بن عبد الله الخراساني، خادم الرضا عليه السلام، قال: قال بعض الزنادقة لأبي الحسن عليه السلام: لِمَ أحتجب الله؟ فقال أبو الحسن عليه السلام: إن الحجاب عن الخلق لكثرة ذنوبهم، فأما هو فلا تخفي عليه خافية في آناء الليل والنهار، قال: فِلَم لا تدركه حاسة البصر؟ قال: للفرق بينه وبين خلقه الذين تدركهم حاسة الأبصار، ثم هو أجلّ من أن تدركه الأبصار أو يحيط به وهم أو يضبطه عقل، قال: فحُدَّه لي، قال: إنه لا

يُحَد، قال: لِمَ؟ قال: لأن كل محدود متناهٍ إلي حد، فإذا احتمل التحديد، احتمل الزيادة، وإذا احتمل الزيادة احتمل النقصان، فهو الله - غير محدود ولا متزايدٍ ولا متجزّئٍ ولا متوهَّم)(1).

(في الكافي عن أبي الحسن الرضا عليه السلام،... وساق الحديث إلي أن قال: فقال - يعني الزنديق -: رحمك الله، أوجدني كيف هو وأين هو؟

ص: 171


1- علل الشرائع ج 1 ص 144.

فقال عليه السلام: ويلك، إن الذي ذهبت إليه غلط، هو أينَ الأينَ بلا أين، وكيّفَ الكيف بلا كيف، فلا يُعرَف بكيفونية ولا بأينونية، ولا يدرَك بحاسة ولا يقاس بشيء)(1).

وباعتبار أن الإمام المهدي عليه السلام، هو من أعظم حقائق عالَم الإمكان، وفي طليعة الحقائق العليا في الوجود، فهي أيضاً لها حظ وافر من الشكوك، ونصيب كبير من الطعون في وجودها، لذا فقد رأينا ممن أصابهم مرض الزهوّ ببعض الألقاب أو الشهادات، أنهم أوقفوا أقلامهم للنيل من أصالة هذه الحقيقة، والتشكيك في جدواها، فأثاروا بعض الأراجيف دعماً لشكوكهم، والتي منها: طول العمر، وبقاء الإمام حياً مئات السنين، أين هو؟ لماذا لم يخرج حتي اليوم؟ وما الذي يؤخره؟ وماذا ينتظر لإصلاح الكون؟ ...

ويطلق المشككون علي من يعتقد بوجود الإمام المهدي عليه السلام، وأنه حي إلي هذه الساعة، أنه من الغلاة، كما ذهب إلي ذلك ابن خلدون في مقدمته، يقول: (غلاة الإمامية وخصوصاً الاثني عشرية منهم، يزعمون أن الثاني عشر من أئمتهم- وهو محمد بن الحسن العسكري، ويلقبونه المهدي، دخل في سرداب بدارهم بالحلّة، وتغيب حين اعتُقِل مع أمه وغاب هنالك، وهو يخرج آخر الزمان فيملأ الأرض عدلاً، يشيرون بذلك إلي الحديث الواقع في كتاب الترمذي في المهدي، وهم إلي الآن ينتظرونه

ص: 172


1- شرح الأسماء الحسن ص 188 .

ويسمونه المنتظر لذلك)(1) .

وقد صُفع هؤلاء المشككون مرتين:

الأولي: من جهة الأحاديث والنصوص والأخبار الدالة علي أن الإمام المهدي- مع هذا العمر الطويل الذي يمتد به - يخرج علي هيئة شاب بين الثلاثين والأربعين سنة.

(عن الهروي قال: قلت للرضا عليه السلام: ما علامة القائم عليه السلام منكم إذا خرج؟ قال: علامته أن يكون شيخ السن شابَّ المنظر، حتي أن الناظر إليه ليحسبه ابن أربعين سنة أو دونها، وإن من علامته أن لا يهرم بمرور الأيام والليالي عليه حتي يأتيه أجله)(2).

الثانية: من جهة البحوث العلمية، حيث أثبتت التجارب العلمية والبحوث والدراسات المخبرية، أن من الممكن أن يعمّر الإنسان طويلاً، ويبقي مئات السنين.

(ولأن العلماء يشاهدون في مختبراتهم العلمية، أن الشيخوخة كظاهرة فسيولوجية لا زمنية قد تأتي مبكّرة، وقد تتأخر ولا تظهر إلا في فترة متأخرة)(3).

ومن التشكيكات أيضاً: هل باستطاعة فرد واحد أن يقوم بهذا التغيير

ص: 173


1- مقدمة ابن خلدون ص 185.
2- بحار الأنوار ج 21 ص 472.
3- بحث حول المهدي ص 56.

الكبير والدور العظيم، ويحول العالم والكون كله من الأرض والسماء، من الظلمات إلي النور، ومن الضيق إلي السعة؟

وأعتقد أننا أجبنا علي هذا السؤال في الفصول السابقة، من (خلافة المهدي) و (صاحب الأمر)، واللبيب من الإشارة يفهم، وبالإشارة يفهم كل من «إأَلْقَي السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ »

هذا من قبل أسئلة المشككين الجاحدين، ولكن هناك أسئلة من قبل المؤمنين، والتي في طليعتها أمران:

الأمر الأول: متعلق بالغيبة.

الأمر الثاني: متعلق بالانتظار .

وسوف نركز علي هذين الأمرين الأساسيين:

الأول - الغيبة، والغاية منها، وبأي أمر تتعلق، ومن المحتاج إليها؟.

الثاني - مراتب الانتظار، ومظاهره، ومن هو المنتظر؟ وتمييز المنتظر الحقيقي عن المزيف "المدعي للانتظار".

ص: 174

الأمر الأول - الغيبة

اشارة

لماذا الغيبة؟ وما هو سببها؟.

جاء في بعض الأخبار أن غيبة الإمام المهدي عجل الله تعالي فرجه، إنما حصلت لخوفه من القتل.

( عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: لا بد للغلام من غيبة، فقيل له: ولم يا رسول الله؟ قال: يخاف القتل)(1).

و ( عن زرارة قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: إن للغلام غيبة قبل ظهوره، قلت: ولم؟: قال: يخاف، وأومأ بيده إلي بطنه، قال زرارة: يعين القتل)(2).

وصريح هذه الروايات وظاهرها، أن الغيبة حصلت بسبب الخوف من قتل الإمام وتصفيته، كما حدث لأجداده و آبائه الطاهرين، ولكن هذا الجواب له جانبان:- الجانب الظاهري: وهو الخوف من القتل علي نفسه، كما جاء في تلك الأخبار.

- الجانب الباطني: وهو الخوف من انتهاء عالَم الإمكان بقتله. ولتوضيح وبيان هذا المطلب نحتاج إلي مقدمات:

ص: 175


1- بحار الأنوار ج 21 ص 342.
2- بحار الأنوار ج 21 ص 343.

1- إن الإمام أو النبي (الإنسان الكامل)، هو علة هذا العالَم، وهذا العالَم معلول له.

2- إن عالم الإمكان إنما هو قائم ومستمر بعلته، ولذلك فهو ينتهي

بانتهائها (الإمام - النبي).

3- بقتل الإمام يتم الانقطاع بين الأرض والسماء، وهذا الانقطاع يؤدي إلي انتهاء الفيض الإلهي، وحصول هذا الانقطاع يعني الفناء لأهل الأرض، الأمر الذي يترتب عليه العذاب.

ويكفي لتأكيد هذه المقدمات، الحديث الذي أوردناه فيما سبق من الصفحات: (لولا الحجة لساخت الأرض بأهلها).

وليس خوف الإمام من القتل باعتبار أنه يحب البقاء في الدنيا، وأنه يعشق الحياة ويتشبث بها، إذ كيف تصور هذا الأمر في حقه؟ وهو من أهل بيتٍ: ( السجن والقتل لهم عادة، و كرامتهم من الله الشهادة)؟.

ما هو متعلق الغيبة؟

أي ما هو الموضوع الذي وقعت فيه الغيبة؟

سمعت في يوم من الأيام أحد السادة الفضلاء من أهل العلم، عبر إحدي القنوات الفضائية، يقول: إن غيبة الإمام عليه السلام هي غيبة مضمون (الدور، المعني)، وليست غيبة شخصية (الجسد - الصورة).واستدل السيد الفاضل علي كلامه بأمرين وهما:

1- الدعاء: دعاؤنا للإمام، بالخصوص (اللهم كن لوليك الحجة ابن

الحسن ... إلخ).

ص: 176

2- أن هناك من رأي الإمام وترك بلقائه عليه السلام.

وهذا الكلام مردود جملة وتفصيلاً من حيث الأدلة العقلية والنقلية، والأمر علي العكس من هذا تماماً، فالغيبة ليست غيبة مضمون، وإنما هي غيبة جسد، لأن القول بغيبة المضمون، يعني غيبة الدور المقدس، والغاية الكبري والأهداف العظيمة للإمام (الإمامة)، إلا إذا حصرنا دور الإمام في الحكم وإدارة البلاد، وما أصغره وأحقره من دور، وقد تطرقنا لتوضيح هذه الأهداف سلفاً في الفصل الأول من هذا الكتاب.

وكذلك فإن القول بغيبة المضمون، يعني انتهاء الواسطة بين الخالق والخلق، فمضمون الإمامة أنها العلة الفاعلية، والعلة الغائيّة، والعلة المبقية والعلة المنميّة، ومظهر الأسماء الإلهية، وواسطة الفيض الإلهي، هذا هو المضمون والدور والمعني الذي نفهمه من الإمامة، من خ لال الروايات والنصوص.

هذا من جهة العقل، وأما من جهة النقل، فإن الروايات تشبه غيبة

الإمام بغيبة الشمس، فما الذي يغيب من الشمس؟ قرصها وصورتها، أم مضمونها الذي من صوره الحرارة والدفء والضوء والنور؟، فلقد ورد في الحديث: ( إن الناس تنتفع به في غيبته، كما تنتفع بالشمس إذا غيبتها الغيوم)، فالإمام المهدي عليه السلام، يغيب إذاً عن شيعته بجسمه، كما تغيب الشمس عن الناس بقرصها، تغيب صورته وجسمه، وتبقي أهدافه

وغاياته.

وهذا نفسه، هو معني ما ورد في الدعاء: (عزيزٌ عليَّ أن أري الخلق

ص: 177

ولا تُري، ولا أسمع لك حسيساً ولا نحوي)(1).

وإذا كان مقصود السيد بالأهداف والمضمون، إقامة الخلافة الإلهية والدولة الإسلامية، فهذا ليس بغيبة، وإنما هو أمر لم يأت وقته، ولم يحن بعد أوانه، لأن هذا الأمر محتاج إلي مجموعة من المقدمات الإعدادية، التي تتعلق بالتغيرات الآفاقية الفضائية والكونية والأرض، كما أشرنا سابقاً.

ولو كانت الغيبة غيبة مضمون أو غيبة دور لساخت الأرض بأهلها، وهذا لارتفاع العلة وانقطاع الغاية، وللزم افتراق أهل البيت عن القرآن، ولم يكن لآية «تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا ..» أي مضمون، لغياب قلبها وروحها وهو الإمام، إذاً هذا الرأي الذي أبداه السيد الفاضل ، لا دليل عليه، بل الدليل والبرهان قائم علي خلافه.

وأما رؤية البعض للإمام عليه السلام، فهذه الرؤيا لا تقع علي حقيقة شخصه المبارك، باعتبار أن الإمام يلبس أجساداً متعددةً كما يشاء ويريد، فيلبس مرة صورة رجل بدوي، وأخري صورة حاجِّ من الحجاج ... فلم تقع الرؤية علي صورته الحقيقية النورانية كما هي هي.

الغيبة ليست حاجة مهدوية

هل الغيبة حاجة مهدوية؟ أم هي حاجة بشرية كونية؟

بمعنيً آخر، هل الإمام عليه السلام هو المحتاج إلي الغيبة كي يستكمل التجربة، ويواكب سير الحضارات، ويلم بنقاط القوة والضعف فيها، كما أشار سماحة السيد محمد باقر الصدر رحمه الله إلي هذا في كتابه "بحث

ص: 178


1- مفاتيح الجنان ص 609.

حول المهدي"، وأكد عليه محقق الكتاب د. عبد الجبار شرارة؟.

يقول السيد الصدر: إن التجربة التي تتيحها مواكبة تلك الحضارات المتعاقبة، والمواجهة المباشرة لحركتها وتطوراتها، لها أثر كبير في الإعداد الفكري وتعميق الخبرة القيادية لليوم الموعود)(1).

أما الدكتور عبد الجبار شرارة، المحقق والمعلق علي الكتاب المذكور فيقول: (الإمام لا يوحي إليه، نعم يكون مسدّداً، ولذلك هو يحتاج إلي إعداد خاص يكون مطلّعاً علي التجارب البشرية والحضارات في صعودها و عوامل تكونها وقوتها، وعوامل ضعفها وانهيارها، فيستمد الخبرة والقدرة والإحاطة بالأمور جميعاً)(2).

وهذا الكلام يتناقض مع أصل الإمامة وحقيقتها.

والغريب في الأمر أن أحد الكتاب قد اعتمد هذا الرأي، وقام علي حسب ظنه وتصوره، بإثبات أن الإمام المهدي عليه السلام بحاجة إلي هذه التجربة والتزود من الخبرات البشرية، معتمداً في ذلك علي بعض الروايات التي تقول: ( إننا نزداد في كل ليلة جمعة ... ) ... ( ولولا أننا نزداد لنفذنا )، وهذه الروايات جاءت في الكتب الحديثية، مثل أصول الكافي وغيره.

ويمكن لنا أن نوجه هذه الروايات، التوجيه الذي يتناسب مع أصول المذهب ومقام الإمامة، وبذلك نوفق بين هذه المرويّات، وبين ما نعتقده

ص: 179


1- بحث حول المهدي ص 72.
2- المصدر السابق حاشية ص73.

في الإمام.

فكيف نوفق بين هذه المرويات والنصوص، وبين حقيقة الإمامة التي تعني الوصول إلي منتهي الكمال في عالَم الإمكان؟، وكيف يمكننا ردّ هذه الإشكالات من السيد الصدر ومحقق كتابه القيم؟.

إن ذلك ممكن بسهولة، إذا استطعنا أن نفسر معن الزيادة الواردة في المرويات المتقدمة بما يوضح المسألة، وذلك علي الشكل التالي:

1- إن الزيادة المقصودة في الروايات، زيادة من قبل الله تعالي وليس من قبل المخلوقين، وبالطبع هناك فرق بين الأمرين.

2- الزيادة هنا هي زيادة التحير في الله، كما جاء في بعض الأدعية المروية عنهم، وهي قولهم عليهم السلام: (اللهم زدني فيك تحيّراً)(1)، وجاء (في البصائر مسنداً عن الحسن بن العباس بن حريش، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: إن لنا في ليالي الجمعة لشأناً من الشأن، قلت: جعلتُ فداك، أي شأن؟ فقال عليه السلام: يؤذَن للملائكة والنبيين، والأوصياء الموتي، وأرواح الأوصياء الأحياء، والوصي الذي بين ظهرانيكم، فيُعرَج بها إلي السماء، فيطوفون بعرش ربهم سبعاً وهم يقولون: سُبّوحٌ قدّوسٌ، رب الملائكة والروح، حتي إذا فرغوا صلوا خلف كل قائمة له ركعتين، ثم ينصرفون، فتنصرف الملائكة لما وضع الله فيها من الاجتهاد، شديداً إعظامهم لما رأوا، وقد زيد في اجتهادهم وخوفهم مثله، وينصرف النبيون والأوصياء وأرواح الأحياء شديداً حبهم، وقد فرحوا أشد الفرح

ص: 180


1- هدي العقول ج8 ص 160.

لأنفسهم، ويصبح الوصي والأوصياء قد أُلهموا إلهاماً من العلم علماً جمّاً مثل جمِّ الغفير، ليس شيءٌ أشد سروراً، منهم)(1).

(ومعلوم أن هذا الاجتماع والموافاة عند العرش الأولي والثاني، مما يزيد في حالهم وأمرهم، وهو أيضاً في نفسه عظيم وله خطب جليل، ولا خفاء في أن لهم عليهم السلام شأناً عظيماً - أي حالاً - بحسب ذواتم الأمرية والجبروتية والملكوتية)(2).

3- الزيادة المقصودة هي في القرب الإلهي، أي قربهم من الله سبحانه وتعالي.

4 - إن الروايات في هذا الشأن يراد منها الإشارة إلي مخلوقيتهم و بشريتهم، حتي لا يتوهم البعض أهم آلهة، أو أرباب من دون الله تعالي، « بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ » .

هذا من جهة، ونستطيع- من جهة أخري- أن نجيب بأن للإنسان

جهتين:

- جهة نحو العوالم الإمكانية والمتناهية.

- وجهة نحو المطلق اللامتناهي.

فالنبي صلي الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام، قد وصلوا إلي منتهي الكمال الإنساني من الجهة الأولي، من حيث العلم والمعرفة والإحاطة، وهذا الجانب لا يمكن أن يتصور فيه الزيادة، وذلك لعدة

ص: 181


1- هدي العقول ج 8 ص 157.
2- المصدر السابق ص 170.

براهين عقلية ونقلية.

فمن البراهين العقلية:

أ- أهم العلل الفائضة علي كل الموجودات، كل علي حسب قابليته : واستعداده، والمعلول فقير إلي علته، والعلة غنيةٌ عن معلوها.

ب- لو فرض لهم الاحتياج إلي غيرهم، والتزود من الغير الذي هو المأموم، لأصبح الإمام محتاجاً إلي الغير، والاحتياج إلي الغير منقصة ، والمفروض خلافه.

ج- يلزم من الاحتياج، أن يكون الإمام مأموماً، والمأموم إماماً،

واللازم باطل، فالملزوم مثله.

هذا من جهة العقل.

ويقول العلامة المحقق العارف، السيد حسين الهمداني الدرود آبادي رضي الله عنه: ( فالأخبار الدالة علي أن عندهم علم ما كان وما يكون، فهي ناظرة إلي إحاطة نفوسهم عليهم السلام بكل شيء، إحاطة البحر لقطرات غير متناهية.

والأخبار الدالة علي حدوث العلم لهم في ليالي القدر وليالي الجمعات وساعة فساعة، والأمر بعد الأمر، فهي ناظرة إلي مرتبة إيقاع تلك الصفة النفسانية علي المعلوم، ولما كان لوصول الأشياء من عالَم ملكوتها إلي عالَم الأعبان سبعة منازل، لا يمكن تنزّها إلي عالَم الأعيان إلا بعد سير هذه المنازل السبعة، وجعل الله لتنزّها مواقيت معينة، فجعل لحججه عليهم السلام ليالي القدر للاطّلاع علي تنزّل أمور السنة إلي عالَم المشيئة، وإلي

ص: 182

عالَم الإرادة، وإلي عالَم القدر، وللاطّلاع علي تنزّلها إلي عالَم القضايا الجمعات، وللاطّلاع علي تنزّلها إلي عالَم الإذن الأيام، وللاطّلاع علي عالَم الأجل الساعات، وللاطّلاع علي وصول الأشياء إلي عالَم الأعيان الآنات، كما ورد بزيادة علومهم عليهم السلام في تلك الأوقات أخبار)(1).

وأما من جهة النقل فهناك أحاديث كثيرة، في طليعتها:

- عُلِّمنا ما كان وما سيكون إلي قيام الساعة.

- علمني رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم ألف باب من العلم، يفتح لي من كل باب ألف باب.

- لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً.

وما يجري لأولهم يجري لأخرهم، فلا يقال هذا خاص لفلان دون

غيره.

إذا، فتعليل الغيبة بأنها لأخذ التجربة وتعميق الخيرة، والنظر في سير الحضارات ومواكبتها، للاطّلاع علي نقاط القوة والضعف - كما يقول بذلك سماحة السيد الصدر "قدس سره"، في كتابه "بحث حول المهدي"، وللاطّلاع علي التجارب- كما يقول محقق الكتاب الدكتور شرارة -، هو قول عليل وليس بمتين، ولا يصمد أمام حقيقة الإمامة والولاية، فمقام الإمامة مقام الإحاطة، ومقام الولاية مقام الكمال والقدرة والعلم.

فعلة الغيبة إذاً ليست لاستكمال نواقص في الإمام - كنقص التجربة

ص: 183


1- شرح الأسماء الحسن ص 137.

والخبرة والاطّلاع-، وإنما هي لاستكمال النواقص في الجانب الإنساني والبعد البشري من جهة، واستكمال نقص في الجانب الكوني من جهة ثانية، فالكون والبشر هما سبب هذه الغيبة، وليس الإمام عليه السلام.

ومن ثمة فإن كلام الدكتور عبد الجبار أن: (الإمام لا يوحي إليه)،

كلام مردود، لأنه يتناقض مع روح القرآن، وأدلة روائية عن أهل البيت عليهم السلام، وأتصور أن هذا الكلام، إنما صدر منه فراراً من بعض الانتقادات التي يمكن أن تثار علي المذهب، من مثل أن الشيعة تعتقد النبوّة في أئمتهم، إذ يظن البعض أن الوحي خاصٍ فقط بالأنبياء والرسل، وعليه فإن الاعتقاد أن الإمام يوحي إليه يعتبر غلواً عند هذا البعض، ولكن أين هؤلاء من القرآن الكريم الذي يقول: «وَأَوْحَيْنَا إِلَي أُمِّ مُوسَي .. »(1)، ويقول: «وَأَوْحَي رَبُّكَ إِلَي النَّحْلِ ...»(2).

فهل أم موسي وهل النحل في مرتبة الأنبياء والرسل؟ فمرتبة الإمام المهدي عليه السلام ومقامه ليس فقط فوق مرتبة ومقام أم موسي، بل فوق مرتبة النبي موسي عليه السلام نفسه، بل والأنبياء جميعاً باستثناء النبي محمد صلي الله عليه و آله وسلم، وأوصيائه الطاهرين عليهم السلام.

وأما من الجانب الروائي، ف (عن أبي جعفر عليه السلام: يملك القائم ثلاثمائة سنة ويزداد تسعاً، كما لبث أهل الكهف في كهفهم، فيملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت ظلماً وجوراً .. ويدعو الشمس والقمر

ص: 184


1- سورة القصص الآية 7.
2- سورة النحل الآية 67.

فيجيبانه، وتطوي له الأرض، ويوحي إليه فيعمل بالوحي بأمر الله)(1).

ومما يؤكد هذا، كثير من الروايات التي تقول أن أمين الوحي جبريل يكون أول من يبايع الإمام عليه السلام ويتبعه، ويكون تحت لوائه، ويأتمر بأمره.1

ص: 185


1- مكيال المكارم ج1 ص 197.

فلسفة الغيبة؟

أولاً- الغيبة بلاء وامتحان

جاء في الدعاء: (اللهم عظُم البلاء، وبرّح الخفاء، وانكشف الغطاء، وضاقت الأرض ومنعت السماء)(1).

البلاء نوعان: بلاء ظاهر و بلاء خفي، والغيبة من النوع الثاني، وهذاالنوع من البلاء هو الأخطر، من حيث خفاؤه وعدم الشعور به.

والبلاء له دوائر مختلفة، وهي:

الدائرة الأولي - البلاء الشخصي والفردي، ومثاله أن يصاب الإنسان بمرض أو فقر أو فقد الأحبة من الأولاد والأهل.

الدائرة الثانية - البلاء الجماعي، مثل ابتلاء الناس بالحاكم الظالم، أو أمراء الجور.

الدائرة الثالثة - البلاء الإنساني، كابتلاء الإنسانية بالأمراض الفتاكة، أو الحروب المدمّرة، أو المجاعة الشاملة، أو الكوارث الطبيعية، من الزلازل والبراكين والسيول المدمّرة والفيضانات ... إلخ.

الدائرة الرابعة - البلاء الكوني الذي يعم الكون، ويشمل الموجودات، وأقرب نوع و مثال لهذا البلاء هو الغيبة، غيبة الإمام المهدي المنتظر عجّل الله تعالي فرجه، وهذا البلاء ليس مختصاً بجهة ولا محصوراً بنوع أو جنس،

ص: 186


1- مفاتيح الجنان ص 606.

بل هو بلاء عام وشامل، يشمل كل الكائنات، ويعم كل الموجودات، أي (عالَم الإمكان)، والكل ينتظر ظهوره كيما تظهر معه حقائق الموجودات، وتحقق بخروجه كمالها.

وقد بكي الغيبة حتي الأئمة الأطهار عليهم السلام، لأنها بلاء عظيم، وأيما بلاء هذا الذي أبكي الإمام الصادق عليه السلام.

(روي عن سدير الصيرفي قال: دخلت أنا والمفضّل بن عمرو، وأبو بصير وأبان بن تغلب علي مولانا أبي عبد الله جعفر بن محمد عليه السلام، فرأيناه جالساً علي التراب، وعليه مسح خيبري مطوَّق بلا جيب، مقصَّر الكمَين، وهو يبكي بكاء الواله، كالثكلي ذات الكبد الحرّي، وقد نال الحزن من وجنتيه وشاع التغير علي عارضيه، وأبلّت الدموع محجريه، وهو يقول: سيدي، غيبتك نفت رقادي، وضيّقت عليّ مهادي، وأسرت مني راحة فؤادي، سيدي غيبتك أوصلت مصابي بفجائع الأبد، وفقد الواحد بعد الواحد يفني الجمع والعدد، فما أحس بدمعة ترقأ في عيني، وأنين يفتر من صدري، عن دوار ج الرزايا، وسوالف البلايا.

قال سدير : فاستطارت عقولنا ولهاً، وتصدعت قلوبنا جزعاً، وظننا أنه سمة لمكروهة قارعة، أو حلت به من الدهر بائقة، فقلنا: لا أبكي الله يا ابن خير الوري عينيك، لأي حادثة تستنزف دمعتك وتستمطر عيرتك؟ وأي حالة حتمت عليك هذا المأتم؟.

فزفر الصادق عليه السلام زفرة وقال: إني نظرت في كتاب الجفر صبيحة هذا اليوم، وهو الكتاب المشتمل علي علم المنايا والبلايا والرزايا،

ص: 187

وعلم ما كان وما يكون إلي يوم القيامة، الذي خص الله تقدّس اسمه به محمداً، والأئمة من بعده عليه وعليهم السلام، وتأملت فيه مولد قائمنا وغيبته، وإبطاءه و طول عمره، وبلوي المؤمنين في ذلك الزمان، وتولد الشكوك في قلوبهم من طول غيبته، وارتداد أكثرهم عن دينهم، وخلعهم ربقة الإسلام من أعناقهم، التي ألزمهم الله تعالي إياها، فأخذتي الرقة، واستولت عليَّ الأحزان)(1).

أقول: وعند قراءتي لهذا الخبر، انكسر قلبي وجرت عبرتي، وقلت: سبحان الله، إمام معصوم يتفجّع من طول الغيبة، ويخاطب الإمام المهدي قبل مولده الجسماني: "سيدي"، إذا كان الإمام يخاطبه: سيدي، فبماذا نخاطبه نحن؟.

ومن هنا أصبح زمن الغيبة هو زمن الغربلة والامتحان والتمحيص، ولا يثبت علي ولايته وإمامته إلا القليل، قال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: (يغيب عن شيعته غيبة لا يثبت فيها علي القول بإمامته إلا من امتحن الله قلبه بالإيمان)(2).

وهناك بعض الروايات والأحاديث التي تشير إلي أن السبب في هذه الغيبة هو سوء الأعمال والأفعال، ومن هذه الأحاديث:

- (في توقيع الحجة عجل الله فرجه إلي الشيخ المفيد: ولو أن أشياعنا وفقهم الله لطاعته، علي اجتماع من القلوب في الوفاء بالعهد عليهم، لما

ص: 188


1- منتهي الأمال ج 2 ص 643.
2- المهدي المنتظر ص 258.

تأخر عنهم اليُمن بلقائنا، ولتعجلت لهم السعادة لمشاهدتنا، علي حق المعرفة وصدقها منهم بنا، فما يحبسنا عنهم إلا ما يتصل بنا مما نكرهه ولا نؤثره منهم، والله المستعان)(1).

- ( وفي قضية علي بن إبراهيم بن مهزيار ... ثم قال: ما الذي تريد يا أبا الحسن؟ قلت: الإمام المحجوب عن العالَم، قال: ما هو المحجوب عنكم، ولكن حجبه سوء أعمالكم)(2).

ثانياً - الإعداد الوجودي لاستقبال المهدي
اشارة

إذا نظرنا بكل إمعان وعمق إلي هذا الوجود المترامي الأطراف، نري أن الغيبة تشكل ضرورة من ضروريات الحياة للموجودات والمخلوقات، بل إن الغيبة تعتبر من أساسيات الوجود.

كيف ذلك؟.

وماذا نقصد بهذا؟.

ولماذا الغيبة ضرورة للحياة؟.

إذا نظرنا إليالموجودات نراها تتلبّس أحد أمرين:

الأمر الأول: الغياب والحضور .

الأمر الثاني: الظهور بلا غياب.

فالغيبة ليست من مختصات الإمام المهدي فقط، بل هي تحري علي حقائق كثيرة، وإن كانت غيبة هذه الحقائق غيبة نسبية، ويكون لها غياب

ص: 189


1- مكيال المكارم ج 1 ص 184.
2- المصدر السابق ص 189.

وظهور، إلا أن الأمر لا يخلو من اعتبار بأهمية الغيبة وفلسفتها، وأنا هنا أشير إلي نموذجين مهمين:

الأول - الغيبة في المجال الكوني: ومن أوضح المصاديق لهذه الغيبة في الجانب الكوني، غيبة الشمس والقمر، وغيبة الشمس تنقسم إلي: غيبة صغري، مثل غيبتها في الليل، وغيبة كبري مثل غيبتها في الشتاء، عندما تغيبها السحب والغيوم، ومن المحتمل أن يكون هذا المعني، هو المراد م ن الحديث المشهور:

( عن جابر الجعفي عن جابر الأنصاري أنه سأل النبي صلي الله عليه وآله وسلم، هل ينتفع الشيعة بالقائم عليه السلام في غيبته؟ فقال صلي الله عليه وآله وسلم: إي والذي بعثني بالنبوّة، إنهم لينتفعون به ويستضيئون بنور ولايته فيغيبته، كانتفاع الناس بالشمس وإن جللها السحاب)(1).

ويقول العلامة المجلسي قدس سره معلقاً علي هذا الحديث: التشبيه بالشمس المجللة بالسحاب يومي إلي أمور:

1)- أن نور الوجود والعلم والهداية، يصل إلي الخلق بتوسطه عليه السلام، إذ ثبت بالأخبار المستفيضة أنهم العلل الغائية لإيجاد الحلق، فلولاهم لم يصل نور الوجود إلي غيرهم.

2) - كما أن شعاع الشمس يدخل البيوت بقدر ما فيها من الروازن والشبابيك، وبقدر ما يرتفع عنها من الموانع، فكذلك ينتفع الخلق بأنوار هدايتهم عليهم السلام، بقدر ما يرفعون من الموانع عن حواسهم

ص: 190


1- بحار الأنوار ج 21 ص 344.

ومشاعرهم، التي هي روازن قلوبهم، من الشهوات النفسانية والعلائق الجسمانية، وبقدر ما يدفعون عن قلوبهم من الغواشي الكثيفة الهيولانية إلي أن ينتهي الأمر إلي حيث يكون بمنزلة من هو تحت السماء، يحيط به شعاع الشمس من جميع جوانبه بغير حجاب)(1).

والغيبة والظهور في الجانب الكوني والطبيعي، هو ما أعطي الحياة طعمها ولذّتها، فغياب الشمس والقمر وظهورهما، وغياب وظهور الشتاء والصيف والربيع، وكذلك الأزهار والثمار والخضار، ولولا هذه الحركة من (الغياب والظهور)، لأصاب الحياة الشلل والملل، ولكن بهذه الصورة تتجدد في كل وقت.

الثاني - الغيبة علي الصعيد الاجتماعي: كغياب الأهل عن بعضهم في أوقات معينة، وكم هذا الغياب من الفوائد الكبيرة والثمار الطيبة علي الصعيدالأسري، و كم له من آثار جميلة من حيث المحبة علي الصعيد الاجتماعي، والسفر خير مثال علي هذا، فعندما يسافر الإنسان ثم يرجع إلي أسرته وأصدقائه، نري ونلاحظ مدي الاحتفاء به من قبل هذه الأسرة وهؤلاء الأصدقاء، لذا جاء في الأثر: (زُر غِبّاً تزدد حبّاً)، وجاء عن الإمام علي عليه السلام: (ينبغي لذوي القربات أن يتزاوروا ولا يتجاوروا)(2).

وكلمة الإمام عليه السلام ناظرة إلي أمرين:

1- بقاء شوق الأسرة الواحدة إلي بعضها، إذا ما كان هناك غياب

ص: 191


1- بحار الأنوار ج 21 ص 344-345.
2- سجع الحمام ص 478.

بسبب بعد المساكن.

2- الابتعاد عن أسباب العداوة والبغضاء، والتي غالباً ما تحصل من الصغار، فتنعكس مشاكلهم علي الكبار.

وكذلك، فإن غيبة الإمام المهدي عليه السلام لها آثار عميقة، ومن أهم هذه الآثار، الإعداد الوجودي بكل مظاهره وصوره ومراتبه، من صورة ومرتبة الجوارح، إلي صور ومراتب النفس والروح والعقل، لتقبُّل ظهور الإمام المهدي عليه السلام، وأن ظهوره هو الحل الوحيد لجميع هذه الأزمات والمعضلات، ولكي تقنع البشرية أن ليس لها غنيً عن اختيار السماء وتسديدها، وأن الإنسانية ليست قادرة علي أن تعيش في منتهي السعادة والرخاء من دون إرشاد السماء وتوجيهها.

إننا نسمع من بعض المتخلفين عقلياً ومنطقياً قولهم: لسنا بحاجة إلي الدين، بل نكتفي بالعلم والحضارة ونستغني بما لدينا من الخبراء وصانعي القرار العالمي، ولهذا أنشئت الأمم المتحدة ومجلس الأمن، الأمم المتحدة التي لا وحدة فيها، ومجلس الأمن الذي يفتقر هو إلي الأمن، وأحسب أن عورات هذه المؤسسات قد انكشفت للجميع، وأن مساوئها قد ظهرت بشكل واضح بل فاضح، وليس علي ظهر الأرض عاقل لم تنكشف له مساوي هذه المؤسسات الغاشمة الظالمة، وليس ذلك إلا بسبب تحيّزها إلي القوي العظمي من جهة، ولأنها ألعوبة بيد القوي الصهيونية تحركها كيف تشاء من جهة ثانية.

وعندما تستنفذ البشرية جميع الحلول، و كل الأطروحات والتصورات

ص: 192

والتجارب، ويأخذ الوضع منحيً تصاعدياً خطيراً، من اتّساع المنكرات، وانتشار الأمراض، وتتحول الأرض مسرحاً للجرائم والحروب والقتل، وتمر بالإنسانية أزمات صعبة علي جميع الأصعدة، السياسية والاقتصادية والأخلاقية والقيمية، وتعيش أوضاعاً خانقة، ينمو الاستعداد لدي الناس للقبول بحقيقة المخلّص العالمي والمنقذ الرباني، وتطلب عودة الخلافة الإلهية التي طالما وقفوا حائلاً دون تحققها وتجسّدها، ودفعوا عنها مصاديقها الحقيقيين، وأزالوهم عن مراتبهم التي رتّبهم الله فيها، فيأتي أمر الله "ويملا الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً".

وهذا بعد أن تجرب المجتمعات والحضارات كل ما تستطيع أن تقوم به وتمارسه، بما في ذلك الإباحية والشذوذ الجنسي، بكل أنواعه وأشكاله وصوره، وهذا ما أشارت له بعض النصوص وصنفته باعتباره من علامات الظهور.

(عن محمد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: القائم منصور بالرعب مؤيد بالنصر، تطوي له الأرض، وتظهر له الكنوز، يبلغ سلطانه المشرق والمغرب، ويظهر الله عزّ وجلّ به دينه ولو كره المشركون، فلا يبقي في الأرض خراب إلا عُمر، وينزل روح الله عيسي بن مريم عليه السلام فيصلي خلفه، فقلت له: يا بن رسول الله من يخرج قائمكم؟ قال: إذا تشبّه الرجال بالنساء، والنساء بالرجال، واكتفي الرجال بالرجال والنساء بالنساء، ور كب ذوات الفروج السروج، وقبلت شهادات الزور ورُدّت شهادات العدل، واستخف الناس بالدماء، وارتُكب الزنا، وأُكل

ص: 193

الربا)(1).

والمتتبع لأحوال العالَم، والمطّلع علي سير المجتمعات، يري أن هذه العلامات في تحقق سريع و انطباق واضح علي الواقع، والتي منها اكتفاء . الرجال بالرجال والنساء بالنساء، وقد تحقق هذا بالفعل، وأخذ وضعه الرسمي في بعض الدول، وقد قام بتتويج هذا العمل المشين والهابط بعض الوزراء والسفراء في دول أوروبية، ومن هذا القبيل ما ينقل أنه:

- ( تزوّج وزير المالية النرويجي الحالي صديقه، متوّجاً بذلك علاقة جنسية لوطية سابقة وحميمة، معتبراً الأمر عادياً جداً ومهماً للغاية، ومثيراً، وأنه ذو صلة بالغريزة والحرية)(2).

- (تزوج وزير الصحة الدانمركي -49 عاماً- من شاب آخر مماثل له في الجنس عمره 28 عاماً، وذلك بحضور حشد كبير من الأصدقاء والسياسيين والاجتماعيين)(3).

- (شهدت العاصمة الهولندية بتاريخ نيسان 2001م، أول زواج رسمي بين الشواذ في العالَم، حيث تم تزويج سيدة من سيدة أخري، وستة رجال من بعضهم البعض)(4).

وقد كانت هذه الممارسات - حتي عهد قريب، تعد من القبائح

ص: 194


1- بحار الأنوار ج 21 ص 410.
2- ما قبل نهاية التاريخ ص212.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق ص 213.

والجرائم، التي يعاقب عليها القانون أشد العقاب، وينكّل بفاعلها أشد التنكيل، بينما باتت تعتبر اليوم دليلاً علي تحضر فاعلها وتحرر مرتكبها، وأصبحت أيضاً مقبولة في الأوساط الاجتماعية والرسمية علي حد سواء.

ومن المؤسف أن تنقاد بعض الدول الإسلامية وراء الغرب وأوروبا، رغبة منها في تحقيق الانضمام إلي الاتحاد الأوروبي الذي يشترط علي هذه الدول، أن تثبت حسن تبعيتها لقوانين هذا الاتحاد، وإن تعارضت هذه القوانين مع الهوية الإسلامية، وبالفعل، فقد قامت بعض الدول الإسلامية بإبداء استعدادها للتخلي عن بقايا هذه الهوية، فألغت عقوبة جريمة الزنا، وشطبت عقوبة جريمة شرب الخمر من قوانينها، ولاتزال الإملاءات عليها مستمرة ومتواصلة، وهذا معني قوله تعالي: «وَلَنْ تَرْضَي عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَي حَتَّي تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ »(1) ، وقول رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: (بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ).

نعم، وسترتفع رايته عالية بظهور الإمام المهدي عجل الله تعالي فرجه وفرجنا به، وذلك بعد أن تضيق الأرض بفساد أهلها، وجرائم أناسها، وتصل المجتمعات إلي درجة الغليان من هتك الحرمات، فعندها انتظروا الفرج وتوقعوا الظهور، الذي تنتهي به كل مظاهر الاحتقان.

بعض الروايات في هذا المطلب:

- (عن منصور قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: يا منصور إن هذا الأمر لا يأتيكم إلا بعد إياسٍ، لا والله حتي تُمَيّزوا، لا والله حتي تُمَحّصوا،

ص: 195


1- سورة البقرة الآية 120 .

لا والله حتي يشقي من يشقي ويسعد من يسعد)(1).

- (عن علي بن جعفر عن أخيه موسي بن جعفر، قال: يا بني، إنه لا بد لصاحب هذا الأمر من غيبة، حتي يرجع عن هذا الأمر من كان يقول به، إنما هي محنة من الله امتحن بها خلقه)(2).

- ( عن جابر الجعفي قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: متي يكون فرجكم؟ فقال: هيهات، لا يكون فرجنا حتي تُغَربَلوا ثم تُغربَلوا ثم تُغربَلوا حتي يذهب الكدر ويبقي الصفو)(3).

- (عن صفوان بن يحيي قال: قال أبو الحسن الرضا عليه السلام: والله ما يكون ما تكدون أعينكم إليه، حتي تُمحَّصوا وتُميَّزوا، وحتي لا يبقي منكم إلا الأندر فالأندر)(4).

- (عن ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله عليه السلام، أنه سمعه يقول: ويل لطغاة العرب من شرِّ قد اقترب، قلت: جعلت فداك، كم مع القائم من العرب؟ قال: شيء يسير، فقلت: والله إن من يصف هذا الأمر منهم الكثير، فقال: لا بد للناس أن يمحَّصوا ويُميَّزوا ويُغربَلوا، ويخرج في الغربال خلق كثير)(5).

- الحسن بن سليمان تلميذ الشهيد رحمة الله عليهما قال: روي أنه

ص: 196


1- بحار الأنوار ج 52 ص111.
2- المصدر السابق ص 113.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق ص 114.
5- المصدر السابق.

وُجِد بخط مولانا أبي محمد العسكري عليه السلام ما صورته: قد صعدنا ذري الحقائق بأقدام النبوّة والولاية، وساق الحديث إلي أن قال: وسيسفر لهم ينابيع الحيوان بعد لظي النيران، لتمام " ألم " و " طه " و "الطواسين" من السنين)(1).

وهذا ما أشرنا إليه من أن الأئمة عليهم السلام مقامهم مقام المنتهي من الكمال الإنساني : " قد صعدنا ذري الحقائق بأقدام النبوة والولاية "، ويظهر أن جملة : " وسيسفر لهم ينابيع الحيوان بعد لظي النيران "، تتحدث عن ثمار الخلافة المهدوية، من حيث: حياة الأرض وإشراقها، ومن حيث ارتفاع الموجودات إلي رتبة من الحياة غير ما كانت عليه في السابق، بما في ذلك الجماد أيضاً، والله أعلم.

ثالثاً- عشق الحقيقة المهدوية
لطيفة:

(قال ناس لأحد العارفين: إن الشمس مع حسنها الباهر، لم نسمع أن أحداً عشقها، فقال: بسبب أنها في كل يوم تمكن مشاهدتها، إلا في الشتاء فإنها تكون محجوبة ومحبوبة)(2).

قلنا سابقاً أن فلسفة الغيبة أنها بلاء وامتحان خفي، وإعداد الوجود الاستقبال المهدي عجل الله تعالي فرجه، ونأتي الآن إلي جانب آخر من فلسفة الغيبة، وهي: تحريك العشق نحو التعلق بالحقيقة المهدوية، فالغياب

ص: 197


1- بحار الأنوار ج 52 ص 121.
2- روضة الورد- كلستان سعدي الشيرازي ص 124.

يحرك المحبة في أعماق النفس، والشوق تجاه الغائب، وعلي الأخص إذا كان الغائب يتمتع بمزايا وصفات لا يتمتع بها الحاضر الشاهد.

وهنا يثار سؤال عميق:

ما الفائدة من إمام غائب؟

وهل ثمة فرق بين الغيبة وعدم الوجود؟

نعم، ثمة فوارق جوهرية وجذرية كبيرة وعميقة بين أن يكون الإمام

موجودا ولكنه غائب، وبين عدم وجوده ألبتة، ومن هذه الفوارق:

1)- الضرورة التكوينية والتشريعية، فلقد كنا أشرنا سابقاً أن الإمام هو من يحفظ الدين من الزيادة والنقصان، ويمسك بالكون ويحفظه من الاخيار.

2)- التلازم بين القرآن والإمام وعدم افتراقهما، فإنهما لن يفترقا حتي يردا الحوض، كما جاء في الخبر عن النبي صلي الله تعالي عليه وآله وسلم.

3) - عرض الأعمال علي الإمام، قال تعالي: «وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَي اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ » ، والمؤمنون المقصودون هنا في هذه الآية المباركة، هم أهل البيت عليهم السلام.

4) - نزول الملائكة علي الإمام، وعدم انقطاعها عنه: « «تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ».

وأما العمر الطويل فلم يعد مشكلة مستعصية، بعد ثبوته لغير الإمام عجل الله فرجه، فهذا الأمر محلول فلسفياً وعلمياً.

ص: 198

أما فلسفياً، فليس أدل علي إمكان تحقق الشيء من وقوعه، فإذا ثبت أن غير الإمام تمتع بهذا العمر الطويل، فما هو المانع أن يكون هذا في الإمام أيضاً؟ وخصوصاً أنه تجري فيه سنن الأنبياء عليهم السلام.

وأما علمياً، فقد أثبت العلم أن بإمكان الإنسان أن يعيش مئات السنين، بشرط معرفته بطرق الصحة، والالتزام بالتوازن الغذائي في المأكل والمشرب، والوقاية من الأمراض، ولقد ثبت أن "شيخ الأنبياء" النبي نوح عليه السلام، قد عاش 2500 سنة، وقيل 3500 سنة، بل إن الغاية من طول عمر بعضهم، الاستدلال ببقائه وطول عمره، علي بقاء الإمام المهدي كما هو واضح في العبد الصالح الخضر عليه السلام.

(عن الصادق عليه السلام أنه قال: وأما العبد الصالح الخضر عليه

السلام، فإن الله تبارك وتعالي ما طوّل عمره لنبوّة قدّرها له، ولا لكتاب ينزّله عليه، ولا لشريعة ينسخ بها شريعة من كان قبله من الأنبياء، ولا الإمامة يلزم عباده الاقتداء بها، ولا لطاعة يفرضها له، بل إن الله تبارك وتعالي لما كان في سابق علمه، أن يقدر من عمر القائم عليه السلام ما يقدّر من عمر الخضر، وما قدّر في أيام غيبته ما قدّر، وعلم ما يكون من إنكار عباده بمقدار ذلك العمر في الطول، طوّل عمر العبد الصالح من غير سبب يوجب ذلك، إلا لعلة الاستدلال به علي عمر القائم عليه السلام، وليقطع بذلك حجة المعاندين، لئلا يكون للناس علي الله حجة)(1).

وفي رواياتنا أن الخضر عليه السلام ملازم لأهل البيت عليهم السلام

ص: 199


1- مكيال المكارم ج1 ص 250.

جميعاً، وفي بعض الأوقات پر سله الإمام في بعض المهام، (عن داوود الرقّي قال: خرج أخَوان لي يريدان المزار، فعطش أحدهما عطشاً شديداً، حتي سقط عن الحمار وسقط الآخر في يده، فقام فصلي ودعا الله ومحمداً وأمير المؤمنين والأئمة عليهم السلام، و كان يدعوهم واحداً بعد واحد حتي بلغ إلي آخرهم جعفر بن محمد عليه السلام ، فلم يزل يدعوه ويلوذ به، فإذا هو برجل قد قام عليه وهو يقول: يا هذا ما قصتك؟ فذكر له حاله، فناوله قطعة عود وقال:ضع هذا بين شفتيه، ففعل ذلك فإذا هو قد فتح عينيه واستوي جالساً ولا عطش به، فمضيا حتي زارا القير، فلما انصرفا إلي الكوفة، أتي صاحب الدعاء المدينة فدخل علي الصادق عليه السلام، فقال له: اجلس ما حال أخيك؟ أين العود؟ فقال: يا سيدي إني لما أُصبت بأخي، اغتمت غماً شديداً، فلما ردّ الله عليه روحه، نسيت العود من الفرح، فقال الصادق عليه السلام: أما إنه ساعة صرتَ إلي غم أخيك، أتاني أخي الخضر فبعثت إليك علي يديه قطعة عود من شجرة طوبي، ثم التفت إلي خادم له فقال: عليَّ بالسفط، فأتي به، ففتحه وأخرج منه العود بعينها، ثم أراها إياه حتي عرفها ثم ردّها إلي السفط)(1).

(وبين الإمام المهدي عليه السلام والعبد الصالح الخضر عليه السلام نقاط التقاء، منها:

1- إن الخضر لا ينزل في أرض إلا اخضرّت واعشو شبت ونبع فيها الماء، وإذا هو ارتحل عنها غار الماء، وعادت الأرض كما كانت ،

ص: 200


1- مكيال المكارم ج 1 ص 249.

وكذلك المهدي عليه السلام.

2- إن الخضر أعطاه الله تعالي من القوة أنه يتصوّر كيف يشاء، وكذلك المهدي عليه السلام.

3- إن الخضر كان مأمورة بعلم الباطن، ولهذا قال لموسي: «قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ،وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَي مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا » وكذلك المهدي عليه السلام)(1).

(عن ابن أبي عمير عمن ذكره عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: قلت له: مابال أمير المؤمنين لم يقاتل مخالفيه في الأول؟ قال: لآية في كتاب الله عزّ وجلّ: « لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا » ، قال: قلت: وما معني تزيّلهم؟ قال: ودائع مؤمنون في أصلاب قوم كافرين، فكذلك القائم عليه السلام، لن يظهر أبداً حتي تخرج ودائع الله عزّ وجل، فإذا خرجت ظهر علي من ظهر من أعداء الله عزّ وجلّ جلاله فقتلهم)(2).

( عن ابن نباتة عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: كونوا كالنحل في الطير، ليس شيء من الطير إلا ويستضعفها، ولو علمت الطير ما في أجوافها من البركة لم تفعل بها ذلك، خالطوا الناس بألسنتكم وأبدانكم، وزايلوهم بقلوبكم وأعمالكم، فوالذي نفسي بيده ما ترون ما تحبون حتي يتفل بعضكم في وجوه بعض، وحتي يسمي بعضكم بعضاً كذّابين، وحتي

ص: 201


1- مكيال المكارم ج 1 ص 251.
2- بحار الأنوار ج 52ص 97.

لا يبقي منكم أو قال من شيعتي، إلا كالكحل في العين والملح في الطعام، وسأضرب لكم مثلاً، وهو مثل رجل كان له طعام، فنقّاه وطيّبه ثم أدخله بيتاً، وتركه فيه ما شاء الله ثم عاد إليه فإذا هو قد أصابه السوس، فأخرجه ونقاه و طيبه ثم أعاده إلي البيت، فتركه ما شاء الله ثم عاد إليه، فإذا هو قد أصاب طائفة منه السوس، فأخرجه ونقاه وطيبه وأعاده، ولم يزل كذلك حتي بقيت منه رزمة كرزمة الأندر، لا يضره السوس شيئاً، وكذلك أنتم، تُميَّزون حتي لا يبقي منكم إلا عصابة لا تضرها الفتنة شيئاً)(1).

ص: 202


1- بحار الأنوار ج 52 ص 115.

الأمر الثاني - مراتب الانتظار

اشارة

بعد الحديث عن فلسفة الغيبة التي هي شأن من شؤون الإمام المهدي عجل الله تعالي فرجه، يأتي الحديث عن صفة من الصفات الخاصة، يمتاز بها شيعة أهل البيه عليهم السلام في زمن الغيبة، وهي صفة الانتظار.

من ألقاب الإمام المهدي عليه السلام: "المنتظَر"، (والمنتظَر : تعني من ينتظر الخلائق كافّةً مقدمة المبارك)(1).

ما ذا يعني الانتظار؟

(الانتظار مشتق من فعل نظر، وهذا الفعل أو هذه الكلمة لها عدة صور، منها: انتظره: أي تأنّي عليه، التنظُّرُ: أي توقع ما ينتظره، النظارة: القوم ينظرون إلي الشيء، والمنظار: المرأة، والنظائر: الأفاضل والأماثل، والنظيرة: الطليعة)(2).

وهذه الاشتقاقات كلها- أو جميعها-، تعطي معنيً عميقاً للانتظار، وصفة الانتظار هنا تعني كل هذه الأبعاد:

1)- التأني، والتأني ضد العجلة أو التعجّل، وهذا يعني أن لا تتعجل الأمر.

(عن الفضيل بن يسار قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عزّ وجلّ: «يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ »، فقال: يا فضيل اعرف

ص: 203


1- منتهي الآمال ج 2 ص 566.
2- القاموس المحيط ص 623.

إمامك، فإنك إذا عرفت إمامك لم يضرّك تقدّمَ هذا الأمر أو تأخّرَ، ومن عرَف إمامه ثم مات قبل أن يقوم صاحب هذا الأمر، كان بمنزلة من كان قاعداً في عسكره، ، لا بل منزلة من كان قاعداً تحت لوائه)(1).

(عن عمرو بن أبان قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول:

اعرف العلامة، فإذا عرفت لم يضرك تقدمَ هذا الأمر أو تأخّرَ، فمن عرَف إمامه كان كمن كان في فسطاط المنتظَر)(2) .

2)- توقع ما ينتظره: أي أن يكون المنتظِر للإمام عليه السلام، علي درجة من اليقين بخروج إمامه، وتحقق الخلافة الإلهية العظمي والكلية علي يديه، واليقين ينبع من المعرفة بحقيقة الإمامة والولاية والخلافة.

(عن زرارة قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: اعرف إمامك، فإنك

إذا عرفته لم يضرّك تقدّمَ هذا الأمر أم تأخّرَ)(3).

3)- القوم ينظرون إلي الشيء: الإمام بالنسبة لهم أظهر الموجودات الإمكانية علي الإطلاق، يقول الإمام السجّاد عليه السلام: (يا أبا خالد، إن أهل زمانه القائلين بإمامته والمنتظرين لظهوره، أفضل من أهل كل زمان، لأن الله تبارك وتعالي أعطاهم من العقول والأفهام، ما صارت به الغيبة عندهم بمنزلة المشاهدة)(4)، والمشاهدة: أي أنهم ينظرون إليه ويرونه

ص: 204


1- بحار الأنوار ج 21 ص 379.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق ص 379.
4- المصدر السابق ص 364 .

فهو عندهم أظهر الحقائق.

4) - المرأة: لأنهم- أي المنتظرون- يعكسون بأعمالهم وأخلاقهم

الحسنة صورة إمامهم، ومن لم يعمل بالورع وبمحاسن الأخلاق لا يعتبر من المنتظرين.

(عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من سرّه أن يكون من أصحاب القائم، فلينظر وليعمل بالورع ومحاسن الأخلاق وهو منتظر ، فإن مات وقام القائم بعده، كان له من الأجر مثل أجر من أدر كه، فجدّوا وانتظروا هنيئاً لكم أيتها العصابة المرحومة)(1).

5)- الأفاضل والأماثل: وهذه قريبة مما سبق، فالأفاضل: باعتبار قول الإمام عليه السلام عنهم: (خُلِقوا من فاضل طينتنا)، والأماثل: من قوله تعالي في الحديث القدسي: ( عبدي أطعن تكن مثلي) .

ومن هذا الأصل النُّوري، يكون لأتباع أهل البيت عليهم السلام، تقدير ومحبة من قبل كل الموجودات، باختلاف مراتبها.

(عن جابر ، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: كأني بأصحاب القائم وقد أحاطوا بما بين الخافقين، فليس من شيء إلا وهو مطيع لهم، حتي سباع الأرض وسباع الطير، تطلب رضاهم في كل شيء، حتي لتفخر الأرض علي الأرض وتقول: مرَّ بي اليوم رجل من أصحاب القائم)(2).

ولم يكن ذلك كذلك، إلا لأنهم الأفاضل والأماثل في الحقيقة وواقع

ص: 205


1- بحار الأنوار ج 21 ص 378.
2- المصدر السابق ص 499.

الأمر.

6)- الطليعة: الطليعة من كل مجتمع: هم خيرة المجتمع.

( السندي عن جده قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ما تقول فيمن مات علي هذا الأمر منتظراً له؟ قال: هو بمنزلة من كان مع القائم في فسطاطه، ثم سكت هنيهة ثم قال: هو كمن كان مع رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم)(1).

فالانتظار إذاً يعني كل هذه الأبعاد: أن لا نتعجّل الأمر، وأن نكون متيقنين من وقوعه و تحققه، وأن نكون الأفاضل والأماثل والمرأة والطليعة.

ومن هنا فإنني أود أن أقف مع القارئ الكريم وقفة قصيرة، حيث قلت قبل قليل أن من معاني الانتظار، أو من اشتقاقاته: المنظار، أي المرآة، والمرأة هي آلة تنعكس من خلالها الأشياء والصور القابلة لها، فإذا كنا منتظرين بالفعل والحقيقة، فنحن إذاً مرائي تنعكس من خلالنا أخلاق الإمام المنتظّر، وهذا يعني أن المنتظِر الحقيقي هو من يعكس إرادة الإمام وحب الإمام، وعلي العكس من ذلك تماماً يكون العاصي والمكابر وسيّء التصرفات، وهذا ليس له حظٌّ من هذا الشرف العظيم، و كما جاء في الخبر : (كونوا زيناً لنا، ولا تكونوا شيئاً علينا).

مراتب الانتظار ومظاهره

للانتظار مراتب ومظاهر مختلفة، وهذه المراتب والمظاهر المختلفة ناشئة من اختلاف كل من المنتظَر والمنتظِر، فإذا كان المنتظَر إنساناً عادياً،

ص: 206


1- بحار الأنوار ج 21 ص 367.

لا يتمتع بالوزن الثقيل اجتماعياً أو علمياً أو مالياً، يختلف انتظاره عمن كان عالِماً أو وجيهاً اجتماعياً أو ثرياً غنياً.

فانتظار العالم يختلف عن انتظار الجاهل، وانتظار العالِم يختلف عن انتظار الحاكم أو الأمير من حيث القوة والمظاهر، انتظار العالِم له مظاهره الدينية، كأن يتمتع المنتظِر بالتدين والوقار، ومن مظاهره أيضاً تزيين المجالس والمحافل ببعض المظاهر الدينية، من مثل وضع الآيات القرآنية، أو تعليق صورة الكعبة والبيت الحرام، وإزالة كل ما من شأنه أن يسيء إلي مكانة هذا العالِم المنتظَر .

وهذا النوع من الانتظار، يختلف- في مظاهره - عن انتظار أمير، أو مسؤول حكومي، فإن الانتظار لمثل هؤلاء، يعني تزيين الطرقات، وتعليق اليافطات الترحيبية، وتهيؤ الشعراء لإلقاء قصائد المديح، وتجمهر الوجهاء، وتعدد كلمات الإطراء والمديح والثناء، وتقديم الهدايا والجوائز، وهكذا تختلف مظاهر الترقب والانتظار، فكل شخصية يتلوّن انتظارها بما يتناسب مع صبغتها وجوهرها.

ولانتظار الإمام المهدي عجّل الله فرجه الشريف مراتب ومظاهر، ويمكن أن نوضح كيفية انتظاره بأمثلة حسيّة وأخري معنوية.

وسوف نقدّم الأمثلة الحسية عن المعنوية، وفقاً للقاعدة الفلسفية التي تقول: " الحسيات معابر للعقليات"، فالانتظار الذي هو من أكبر مظاهر العقلاء، لا يمكن أن يفهم بشكل جيد و مطابق للحقيقة، إلا من خلال معابر الأمثلة الحسية، أو الحسيات.

ص: 207

- المثال الحسي الأول: انتظار الفلاح وقت الحصاد وقطف الثمار، فمن المؤكد أن هذا الانتظار سيكون مدعوماً بالعمل الدؤوب، والسقي والزراعة والحراثة، ورعاية الأشجار من الآفات الضارّة.

- المثال الحسي الثاني: انتظار الشاب للزواج، ويكون ذلك بالبحث عن العمل أو الوظيفة، والشعور بضرورة تحمل المسؤولية، لكي يوفر له وأفراد أسرته العيش الكريم.

- المثال الحسي الثالث: انتظار الوالدين - الأم والأب - إنجاب ولدهما وخروجه إلي الدنيا، الأمر الذي يعني إعداد السرير، وشراء جميع لوازمه من ملابس وحاجيات.

بعد هذه الأمثلة الحسية الثلاثة، نأتي إلي مثال معنوي واحد، يبين لنا حقيقة الانتظار، وهو انتظار المصلّي وقت الصلاة، وعلي الأخص صلاة الجماعة، المنتظر للصلاة يتهيأ لها بالطهارة التامة، ويقصد المسجد قبل وصول الإمام، حتي يتسني له أن يصلي النوافل، ويكون مشغولاً بالذكر والتسبيح، متوجهاً بكل كيانه وحقيقته الصورية والقلبية نحو الملكوت، أما الذي لا تتوفر فيه هذه الشروط، ولا يتمتع بمثل هذه المظاهر، فهو مشغول عن الطهارة بالحديث عن الدنيا والمال، والبيع والشراء والربح والخسارة، أو بالحديث عن عيوب الآخرين أو التجريح بهم والتدخل في شؤونهم الخاصة بهم، فهل يعتبر هذا منتظراً للصلاة؟

مراتب انتظار الإمام المهدي (عجّل الله تعالي فرجه الشريف)

نكتشف من كثير من الروايات التي ذكرت الانتظار، أنها تريد تبيان

ص: 208

وإظهار مراتب الانتظار أو مراتب المنتظرين، ونحن نذكر هنا بعضاً منها:

1- (عن المفضّل بن عمر: سمعت الصادق جعفر بن محمد عليه السلام يقول: من مات منتظراً لهذا الأمر، كان كمن كان مع القائم في فسطاطه، لا بل كان بمنزلة الضارب بين يدي رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم بالسيف)(1).

2- (عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام: من سره أن يكون من أصحاب القائم فلينتظر )(2).

3- السندي عن جده قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ما تقول فيمن مات علي هذا الأمر منتظراً له؟ قال: هو بمنزلة من كان مع القائم في فسطاطه، ثم سكت هنيهة ثم قال: هو كمن كان مع رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم)(3).

وظاهر الروايات يوحي أن هناك اختلافاً وتبايناً وتضارباً في تحديد

ثواب المنتظرين، ولكن بالتمعّن والتحقيق يظهر أن منشأ هذا الاختلاف عائد للمنتظرين أنفسهم، لا إلي التردد في التحديد من قبل الإمام عليه السلام، فالتباين الملاحظ عائد إلي اختلاف مراتب المنتظرين، وبالتالي اختلاف الثواب المترتب علي الانتظار من قبل كل فرد منهم، ومن هذه المراتب التي ذكرت في الروايات:

ص: 209


1- بحار الأنوار ج 21 ص 382.
2- المصدر السابق ص 378.
3- المصدر السابق ص 367.

1- مرتبة العبادة:

قال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: (أفضل العبادة انتظار الفرج)(1).

2- مرتبة العمل:

عن الرضا عليه السلام عن آبائه عليهم السلام قال: (قال رسول الله صلي الله عليه و آله وسلم: أفضل أعمال أمتي انتظار فرج الله عزّ وجلّ)(2).

وقال أمير المؤمنين عليه السلام: (انتظروا الفرج ولا تيأسوا من روحالله، فإن أحب الأعمال إلي الله عزّ وجلّ انتظار الفرج)(3).

3- مرتبة الصحبة (صحبة القائم عجّل الله فرجه): (من سرّه أن يكون من أصحاب القائم فلينتظر).

4- مرتبة الجهاد (مع رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم):

(لا بل كان بمنزلة الضارب بين يدي رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم بالسيف).

قد يتصور أن الروايات متضاربة في هذا الشأن، وقد يتوهم أن الإمام متردد في تحديد نوع الثواب (ثواب المنتظر)، ذلك أن ظاهر هذه النصوص يوحي أن هناك تعدداً في نوعية الثواب (ثواب العبادة، ثواب العمل، ثواب الصحبة، ثواب الجهاد)، وحقيقة الأمر ليست كذلك، فلا تردد هناك ولا

ص: 210


1- بحار الأنوار ج 21 ص 366.
2- المصدر السابق ص 364.
3- المصدر السابق ص 365.

تضارب، وإنما يعود كل ذلك إلي اختلاف مراتب المنتظرين، واختلاف المراتب ناشئ من أمرين:

الأول - اختلاف المرتبة المعرفية: ذلك إن المعرفة بالإمام تختلف من شخص إلي آخر، باعتبار أن المعرفة لها مراتب مشككة ودرجات متفاوتة، فهناك المعرفة الأعلي، وهناك المعرفة العليا، وهناك المعرفة العالية، كما أن هناك المعرفة الأدني، وبين هذه المراتب المعرفية مراتب لا حصر لها.

ومن هنا فقد جاء في الدعاء: (اللهم عرّفني حجتك، فإنك إن لم تعرّفني حجتك ضللت عن ديني)، وجاء في الخبر: (عن زرارة قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: اعرف إمامك، فإنك إذا عرفته لم يضرّك تقدّمَ هذاالأمر أو تأخّرَ)(1).

الأمر الثاني - اختلاف المرتبة العشقية، والعشق ضربان:

1- عشق متعلق بالظواهر من المحسوسات مثل عشق الجسمانيات والماديات والصور والأشكال والألوان.

2- عشق متعلق بالمعنويات (من الحقائق)، مثل عشق العلم والعبادة والعدل والأمن والحرية، والإمام عجّل الله تعالي فرجه يتصف بجمال الملك والملكوت، فبعده الظاهري والحسي له من الجمال والبهاء ما يعجز البيان عن وصفه، فهو يتمتع بأجمل جسم وأكمل صورة، ويكفي للدلالة علي ذلك ما جاء في الخبر: (المهدي طاووس الجنة) أو أهل الجنة، من جماله الباهر الظاهر، وأما بعده الملكوتي فلا وصف له ولا نعت، إذاً هو المعشوق

ص: 211


1- بحار الأنوار ج 21 ص 379.

ظاهراً وباطناً، ملكاً وملكوتاً.

(وعندما يحين ظهوره الشريف، يتجسّد معني مواريث جميع الأنبياء وآثار الأصفياء، في خلاصة ما سلف من الوجود، إنه عصارة الخلق والوجود، إنه عصارة الأريج الذي جمعه الله سبحانه وتعالي من جميع أزهار وورود العالَم، وحصّله في زجاجة فكان الحجة ابن الحسن)(1).

والمرتبة الجهادية تعني استعداد المنتظِر - معنوياً وحسياً- للقيام بوظيفته الجهادية في أي وقت و ظرف، وهذا معني (يا ليتنا كنا معكم).

(حكي عن محيي الدين الأربلي أنه حضر عند أبيه ومعه رجل، فنعس فوقعت عمامته عن رأسه، فبدت في رأسه ضربة هائلة، فسأله عنها، فقال له: هي من صِفّين، فقيل له: وكيف ذلك ووقعة صِفّين قديمة؟ قال: كنت مسافراً إلي مصر، فصاحبني إنسان من " غَزّة "، فلما كنا في بعض الطريق تذاكرنا وقعة صِفّين، فقال الرجل: لو كنت في أيام صِفّين لرويت سيفي من علي وأصحابه، فقلت له: لو كنت في أيام صِفّين لرويت سيفي من معاوية وأصحابه، وها أنا وأنت من أصحاب علي عليه السلام ومعاوية لعنه الله، فاعتركنا عركة عظيمة واضطربنا فما أحسست بنفسي إلا مرمياً لما بي، فبينما أنا كذلك، وإذا بإنسان يوقظني بطرف رمحه ففتحت عينّي فنزل إليّ ومسح الضربة فتلاءمت، فقال: البث هنا، ثم غاب قليلاً وعاد ومعه رأس مخاصمي مقطوعاً والدوابّ معه، فقال لي: هذا رأس عدوّك، وأنت نصرتنا فنصرناك، ولينصرنّ الله من ينصره، فقلت: من أنت؟ فقال :

ص: 212


1- مقتطفات ولائية ص 30.

2- فلان بن فلان - يعني صاحب الأمر-، ثم قال لي: وإذا سئلت عن هذه الضربة فقل: ضُرِبتُها في صِفّين)(1).

فالانتظار - عند مثل هؤلاء القوم - يعني تحمّل المسؤولية كاملة والدفاع عن أصول المذهب ومظاهره في زمن الغيبة، وبهذه الصورة يكون الانتظار عملية نفسانية، القصد أو الغاية منها الاستمرار في التكامل الذاتي علي جميع الأصعدة، العبادية والعملية والولائية - الصحبة - والجهادية.

وهناك من يصبغ انتظاره بالمداهنة تارة، ويلوّنه بالمراوغة تارة أخري، وذلك بتقديم التنازلات تلو الأخري، علي حساب وهم التقارب بين الطوائف والمذاهب، والثمن المدفوع هو فقط من جانب واحد وجهة واحدة هي الجهة الأضعف، ولم نحصد من صياح التقارب وضجيج الحوار سوي المزيد من تقدم التنازلات، والتخلي من طرف واحد عن قسم كبير من شعائرنا، بما في ذلك شعيرة تعظيم السرداب المقدس، الذي هو موقع اختفاء الإمام عليه السلام، والآخر ثابت علي كل ما ورثه، والوقوف أمام السرداب يغيظ قلوب قوم حاقدين، بل ويسخرون من هذا المكان المبارك، والغريب في الأمر أن يتبعهم في السخرية البعض من أهل العلم والفضل، متأثرين بسخرية الحاقدين.

قال تعالي: «زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا »(2)، وقال عزّ وجلّ: « إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا

ص: 213


1- بحار الأنوار ج 52 ص 75.
2- سورة البقرة الآية 212.

تَسْخَرُونَ »(1)، وقال سبحانه: «بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ»(2).

وقال الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليهما السلام، في حديث رواه عنه أبو خالد: (تمتدّ الغيبة بولي الله عزّ وجلّ، الثاني عشر من أوصياء رسول الله صلي الله عليه و آله وسلم، والأئمة بعده، يا أبا خالد، إن أهل زمانه القائلين بإمامته والمنتظرين لظهوره، أفضل من أهل كل زمان، لأن الله تبارك وتعالي أعطاهم من العقول والأفهام، ما صارت الغيبة عندهم بمنزلة المشاهدة، وجعلهم في ذلك الزمان بمنزلة المجاهدين بين يدي رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم بالسيف، أولئك هم المخلصون حقاً، وشيعتُنا صدقاً، والدعاة إلي دين الله عزّ وجلّ سرّاً وجهراً)(3).

ص: 214


1- سورة هود الآية 38.
2- سورة الصافّات الأية 12.
3- حار الأنوار ج 21 ص 364، مكيال المكارم ج1 ص30

قصص وتعليق

1)- القصة الأولي:

( عن القطب الراوندي قال: روي أن أبا محمد الدعلجي كان له

ولدان، وكان من أخيار أصحابنا، وكان قد سمع الأحاديث، وكان أحد ولديه علي الطريقة المستقيمة وهو أبو الحسن، كان يغسّل الأموات، وولد آخر يسلك مسالك الأحداث في الإجرام، ودُفِع إلي أبي محمد حجة يحجّ بها عن صاحب الزمان عليه السلام، وكان ذلك عادة الشيعة وقتئذ، فدفع شيئاً منها إلي ابنه المذكور بالفساد، وخرج إلي الحج، فلما عاد حكي أنه كان واقفاً بالموقف فرأي إلي جانبه شابّاً حسن الوجه أسمر اللون بذؤابتين مقبلاً علي شأنه في الابتهال والدعاء والتضرع وحسن العمل، فلما قرُبَ نَفرُ الناس - أي التهيؤ للرحيل - التفتَ إليّ فقال: يا شيخ، أما تستحيي؟ فقلت: من أي شيء يا سيدي؟ قال: يُدفَع إليك حجة عمن تعلم فتدفع منها إلي فاسق يشرب الخمر؟ يوشك أن تذهب عينُك هذه، وأومأ إلي عيني، وأنا من ذلك إلي الآن علي وجل ومخافة، وسمع أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان - الشيخ المفيد ذلك، قال: فما مضي عليه أربعون يوماً بعد مورده، حتي خرج في عينه التي أومأ إليها فرحة فذهبت)(1).

يستفاد من هذه القصة عدة أمور:

الأول: ارتباط أهل البيت عليهم السلام الحقيقي بأتباعهم وشيعتهم،

ص: 215


1- منتهي الآمال ج 2 ص 648، الأنوار البهية في تواريخ الحج الإلهية ص 296.

وذلك عن طريق تقديم هدية عبادية لهم والنيابة عنهم في بعض العبادات كالحج مثلاً، أو إهداء بعض الركعات المستحبة، وخصوصاً في المشاهد الشريفة.

الثاني: تقديم حق النبي صلي الله عليه وآله وسلم، وأهل البيت عليهم السلام علي الحق الذاتي بالنسبة للإنسان، باعتبارهم العلة المفيضة لجميع الشؤون الوجودية ومتعلقاته، فقد جاء بأسانيد معتبرة عن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم، أنه قال: (لا يؤمن أحدكم حتي أكون أنا وأهل بيتي أحب إليه من نفسه وبنيه والناس جميعاً)(1).

ويعلق الشيخ المحقق عباس القمي رضي الله عنه، علي هذا الحديث بقوله: ( وكيف لا يكون ذلك كذلك، في حين أن وجود وحياة كافة الموجودات، وكذلك الدين والعقل والصحة والعافية، وسائر النعم الظاهرة والباطنة، إنما هي من شعاع وجوده المقدس ووجود أوصيائه صلوات الله عليهم)(2).

الثالث: الاختيار المناسب لمن ينوب عن الإمام في العمل العبادي، من حيث الإيمان والصلاح والعلم، وذلك لأن الإمام عليه السلام كله دين، وكله إيمان و كله صلاح وكله علم، ومن ينوب عنه يجب أن يكون قريباً في معانيه وحقائقه من تلك المعاني والحقائق، ولا يجوز أن يكون متسافلاً، كالمتهاون بالواجبات والطاعات، والغارق في المعاصي والموبقات.

ص: 216


1- منتهي الآمال ج 2 ص 647.
2- المصدر السابق.

الرابع: أن الإمام المهدي عليه السلام يشهد المؤمنين، ويراهم من حيث لا يرونه، وقد جاءت بذلك بعض الروايات المعتبرة.

2)- القصة الثانية

(عن أبي عبد الله الحسين بن محمد بن سورة القمي، عن جماعة من مشايخ أهل قم، أن علي بن الحسين بن موسي بن بابويه، كانت تحته بنت عمّه محمد بن موسي بن بابويه فلم يرزق منها ولداً، فكتب إلي الشيخ أبي القاسم - حسين بن روح- رضي الله عنه، أن يسأل الحضرة أن يدعو الله أن يرزقه أولاداً فقهاء، فجاء الجواب: إنك لا ترزق من هذه، وستملك جارية ديلمية وترزق منها ولدين فقيهين، قال أبو عبد الله بن سورة: ولأبي الحسن بن بابويه رحمه الله ثلاثة أولاد: محمد وهو الشيخ الصدوق، والحسين، وهما فقيهان ماهران في الحفظ، يحفظان ما لا يحفظ غيرهما من أهل قم، ولهما أخ اسمه الحسن، هو الأوسط، مشتغل بالعبادة والزهد، لا يختلط بالناس ولا فقه له، قال ابن سورة: كلما روي أبو جعفر وأبو عبد الله ابنا علي بن الحسين، يتعجب الناس من حفظهما، ويقولون لهما: هذا الشأن خصوصية لكما بدعوة الإمام عليه السلام لكما)(1).

يستفاد من هذه القصة ما يلي:

1- أن يكون طموح الأب بالنسبة للأولاد الوصول لأعلي المراتب الوجودية، كأن يتمني لهم أن يكونوا علماء فقهاء أعلام دين، وأن يسعي التحقيق هذا الهدف.

ص: 217


1- الأنوار البهية ص 292.

2- التوجه لأهل البيت عليهم السلام - وخصوصاً ولي العصر عجل الله تعالي فرجه الشريف - وتقديمهم بين يدي الحاجات عند الدعاء لله سبحانه وتعالي، فهم الوسائل إليه عزّ وجلّ.

3- القصة الثالثة

قال المحدث السيد نعمة الله الجزائري في "الأنوار النعمانية": (أخبرني أوثق مشايخي في العلم والعمل، و كان تلميذاً لمولاي الأردبيلي، من أهل "تفرش"، واسمه الأمير علّام، وكان في غاية الفضل والورع، قال: كانت لي حجرة في المدرسة المحيطة بالقبة الشريفة بالغري، واتفق لي ذات ليلة أن خرجت بعد أن فرغت من المطالعة، وكان قد ذهب كثير من الليل، فبينا أنا أجول في الصحن، رأيت شخصاً مقبلاً نحو الروضة المقدّسة، فتساءلت إن كان الرجل من لصوص القناديل، فأقبلت نحوه، فلما قربت منه عرفت أنه أستاذنا الفاضل العالم التقي الزكي، مولانا أحمد الأردبيلي قدّس الله روحه، فأخفيت نفسي عنه حتي أتي الباب - وكان مقفلاً- فانفتح له عند وصوله إليه، وجري له مثل ذلك عند الباب الثاني والثالث، حتي دخل الروضة المقدسة فسلّم، ورَدَّ عليه السلام صوتٌ من جهة القبر الشريف، وسمعته يحدّث الإمام عليه السلام في مسألة علمية، ثم خرج فمشيت خلفه حتي خلّف الغري متوجهاً نحو مسجد الكوفة، فكنت خلفه بحيث لا يراني حتي دخل المسجد، وصار إلي المحراب الذي استشهد أمير المؤمنين صلوات الله عليه عنده، فسمعته يتكلم مع أحدهم في المسألة نفسها، ثم خرج من المسجد ورجع أدراجه، ورجعت خلفه وهو لا يراني، وعندما وصل إلي

ص: 218

بوابة البلدة كان الصبح قد أسفر، فأظهرت نفسي له وقلت: يا مولانا لقد كنت معك حيث دخلت الروضة المقدسة إلي الآن، وأقسم عليك إلا أخيرتني بما جري عليك، ومن هو الشخص الأول الذي كلّمته؟ ومن هو الثاني ؟ فقال : أخبرك علي أن لا تخبر به أحداً ما دمتُ حياً، فلما توثّق ذلك من قال: كنت أفكر في بعض المسائل وقد استغلقت علي، فوقع في قلبي أن آتي أمير المؤمنين عليه السلام وأسأله عن ذلك، ولما فعلت، أحالي عليه السلام إلي صاحب الزمان عليه السلام، وقال: ائتِ مسجد الكوفة فالقائم هناك هذه الليلة، وإنه إمام زمانك فسله مسألتك)(1).

يستفاد من هذه القصة:

1- أن علي العلماء التوجه إلي الحضرات المقدسة لأهل البيت عليهم السلام، وخصوصاً إذا استشكلت عليهم مسألة من مسائل العلم.

2- أثر العلم واضح علي الذوات، حتي وإن كانت ذوات جمادية كالأبواب، فهي تطيع صاحب العلم.

3- أن يتوجه الإنسان في كل مشاكله إلي إمام زمانه عليه السلام، وأن لا يتعدي إمام زمانه إلي غيره من الأئمة، لأن أهل البيت كلهم نور واحد، فذلك هو المفهوم الواضح من دفع الإمام علي عليه السلام المقدس الأردبيلي، ليتوجه إلي إمام الزمان ويطرح عليه ما استشكل من المسائل.

4 )- القصة الرابعة

قال صاحب المناهل السيد محمد بن السيد علي، وهو عالِم كبير:

ص: 219


1- منتهي الآمال ج 2 ص 625.

ص: 220

ص: 221

في صلاة بخشوع، وقراءة متأنية في أجزائها وأذكارها وأدعيتها، كواحد من أفضل العقلاء، فكنت متحيراً مما رأيته منه، كلما أمعنت النظر إليه لم أجد عليه أقل علامة من علامات الجنون، وراقبته بمزيد من الدقة حتي ملكتني الدهشة، ولما انتهي وأراد أن يمشي أسرعت إليه، فأخذ يموّه علي شخصيته الحقيقية بتصرفات جنونية، قلت له: يا هذا إني رأيتك منذ دخلتَ المسجد، فقد دلّتني صلاتك الخاشعة علي أنك إنسان عاقل ولست كما تُظهِر به نفسك في الطريق، قل لي: لم تتصرف كالمجانين؟ فلم يجبني إلا بحركات جنونية أصر بها أن يغطّي علي شخصيته، فكلما رجوته أبي إلا إصراراً علي التمويه وهو يسعي إلي التهرب مني، وهناك قلت له: أقسم عليك بحق الذي جننت من أجله قل لي الحقيقة.

بهذا القسَم انهمرت دموعه وبكي، فعلمت أني وضعت إصبعي علي جرحه، نظر إليّ هنيهة ثم قال: ما دمتَ قد أقسمتَ عليّ بمن جننتُ من أجله، فإني أخبرك بحقيقة أمري، فلقد كنت كثير اللقاء والنظر إلي الإمام الحجة صاحب العصر والزمان روحي فداه، ولكن بسبب معصية صدرت مني قد ولّت عني هذه السعادة، ومثلي ليس له إلا الجنون تعبيراً عن شقائه وخسارته، فلقد أصبحت الدنيا عندي بلا أهمية، قلت له: هل يمكنك الإفصاح لي عن تلك المعصية ليعتبر الآخرون ويرتدعوا؟ قال: إني نظرت إلي امرأة أجنبية نظرة ريبة وشهوة، أفهل تستحق هذه العين الخائنة أن تنظر إلي جمال ولي الله الأعظم الحجة بن الحسن عليه السلام مرة أخري،

ص: 222

والآن فهل تعلم خاسراً أشقي مني؟!)(1) .

ويستفاد من هذه القصة مايلي:

1- إن الموالي المؤمن فقد مظاهر الانتظار ومعانيه بنظرة ريبة وشهوة واحدة، وحرم بذلك نفسه من رؤية الإمام عليه السلام.

2- إن الذنوب والمعاصي هي سبب هذا الاحتجاب، كما جاء في بعض الأخبار، وإن المؤمن الطاهر القدسي يمكنه أن يتشرف برؤية الإمام عجل الله تعالي فرجه وسهّل مخرجه.

3- إن الخسارة الكبري هي في فقدان إمام الزمان، وعدم التمكن من الاتصال به والالتقاء معه.

6)- القصة السادسة

روي الشيخ الطوسي عن رشيق أنه قال:

بعث إلينا المعتضد- ونحن ثلاثة نفر - فأمرنا أن يركب كل واحد منا فرساً وأن نخرج مخففين لا يكون معنا قليل ولا كثير، وقال لنا: الحقوا بسامرة، ووصف لنا محلة وداراً وقال: إذا أتيتموها برأسه(2).

فوافينا سامرة فوجدنا الأمر كما وصفه، وفي الدهليز خادم وفي يده حملة ينسجها، فسألناه عن الدار، ومن فيها، فقال: صاحبها، فو الله ما التفت إلينا، وقل اكتراثه بنا، فكبسنا الدار كما أُمرنا، فوجدنا داراً سرّية،

ص: 223


1- قصص وخواطر ص 568.
2- هكذا وردت في الأصل: إذا أتيتموها برأسه، وأري أن في العبارة نقصاً، ولعل الصحيح: إذا أتيتموها فاقتلوا صاحبها وأتوني برأسه، والله أعلم.

ومقابل الدار ستر ما نظرت قط إلي أنبل منه، كأن الأيدي رفعت عنه في ذلك الوقت، ولم يكن في الدار أحد، فرفعنا الستر، فإذا بيت كبير كأن بحراً فيه، وفي أقصاه حصيرقد علمنا أنه علي الماء، وفوقه رجل من أحسن الناس هيأة قائم يصلي، فلم يتلفت إلينا ولا إلي شيء من أسبابنا، فسبق أحمد بن عبد الله ليتخطي البيت، فغرق في الماء، وما زال يضطرب، حتي مددت يدي إليه فخلّصته وأخرجته، فغشي عليه ساعة، وعاد صاحبي الثاني إلي فعل ذلك الفعل فناله مثل ذلك، وبقيت مبهوتاً، فقلت لصاحب البيت: المعذرة إلي الله وإليك، فوالله ما علمت كيف الخير، ولا إلي من أجيء، وأنا تائب إلي الله، فما التفت إلي شيء مما قلنا، وما انفتل عما كان فيه، فهالنا ذلك وانصرفنا عنه، وقد كان المعتضد ينتظرنا، وقد تقدم إلي الحجّاب أن إذا وافيناه أن ندخل عليه في أي وقت كان، فوافيناه في بعض الليل فأُدخلنا عليه، فسألَنا عن الخبر، فحكينا له ما رأينا، فقال: ويحكم، لقيتم أحدا قبلي؟ وجري منكم إلي أحد سبب أو قول؟ قلنا: لا، فحلف بأشد الأيمان أنه إن بلغه هذا الخبر ليضربَنّ أعناقنا، فما جسرنا أن تحدّث به إلا بعد موته)(1).

يستفاد من هذه القصة ما يلي:

1- حرص أعداء أهل البيت عليهم السلام، علي إبادتهم والقضاء عليهم ومحق آثارهم وأثرهم، ويأبي الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون، وكما قالت الحوراء زينب عليها السلام مخاطبة يزيد لعنه الله:

ص: 224


1- منتهي الآمال ج2 ص 589.

فوالله لا تمحو ذكرنا).

2- العناية الإلهية وإحاطتها بالإمام الحجة عجّل الله فرجه، وأن الله إذا أراد أمراً لا رادّ لإرادته ومشيئته.

3- تكتم الأعداء علي الحقائق المتعلقة بأهل البيت عليهم السلام، وإخفاء أي فضيلة من فضائلهم و كل كرامة تظهر من كراماتهم، كما هو واضح في القصة من تهديد المعتضد لرشيق وأصحابه بالقتل، فيما لو أنهم حاولوا نشر الكرامات التي ظهرت لهم في بيت الإمام عليه السلام.

الخاتمة:

للكتابة عن الإمام المهدي عجل الله تعالي فرجه، لذّة روحية وعقلية ونفسية وجسمية أيضاً، بكل ما لهذه الكلمات من المعاني، وذلك تبعاً لتأثير هذه الجوانب علي بعضها البعض، كما أن القراءة حول ذات الموضوع لها نفس الخصوصيات والنتائج، وهذا باعتبار أن الإمام المهدي عليه السلام، حلم عالمي يراود كل الموجودات، وشعور فطري مغروز في كيان كل المخلوقات.

ولكن، ومن خلال تتبع النصوص الحديثية في هذا الجانب، اتضحت لي مسألة مهمة، وهي: أن الطور المهدوي بكل عظمته ورقيه وتغيراته وأحداثه، إن هو إلا توطئة لفتح الوجود الإمكاني علي طور وعهد جديد، صَعُبَ علي الكثير فهمه وهضمه، ألا وهو طور رجعة أهل البيت عليهم السلام، وقيام الدولة المحمدية والحكومة الإلهية، وبسط سلطة أهل البيت عليهم السلام علي كل المحاور الوجودية .

ص: 225

وهذا ما سوف نعالجه في بحثنا القادم إن شاء الله تعالي، مع إتمام بعض العناوين ذات الصلة بالإمام المهدي عجل الله تعالي فرجه.

أسأل الله تعالي أن يجمعني وإياكم في خلافتهم ودولتهم ورجعتهم، إنه علي كل شيء قدير .

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلي الله علي سيدنا ونبينا محمد و آله الطاهرين.

علي آل محمد

ص: 226

المصادر والمراجع

لسان العرب

الإمامة - مطهري

بحار الأنوار

الحكومة الإسلامية

الإمامة الكبري والخلافة العظمي

بحث حول الإمامة

هدي العقول

المهدي المنتظر

حقيقة الإمامة

الكبريت الأحمر

رسائل آل طوق القطيفي

الطائف الأعلام

مكيال المكارم

المظاهر الإلهية

علل الشرائع

العارف الكامل

الطور المهدوي

ص: 227

المهدي المنتظر، حقيقة أم خرافة؟

المهدي وفقه أشراط الساعة

سيكولوجية الانتظار

ينابيع المودّة

حقيقة الإمامة في المدرسة العرفانية

القلب السليم

كشكول البهائي

الإسلام والعقل للشيخ مغنية

المعجم المعين

الإمامة ذلك الثابت المقدّس

حقيقة الإمامة

كشف الحق

الخصائص الكبري

ثورة العشق الإلهي - الإمام الخميني قدس سره

الذريعة إلي مكارم الشريعة

ما قبل نهاية التاريخ

شرح الأسماء الحسني

التكوين والتجلّي

المطالب العالية من العلم الإلهي

إينشتاين والنسبية

ص: 228

شرح توحيد الصدوق

كشاف اصطلاحات الفنون

الميزان في تفسير القرآن

الإسراء والمعراج- رموز و دراسة تحليلية

العلم يدعو للإيمان

الصحيفة العلوية

شرح أصول الكافي

ثلاث رسائل - غاية المراد في تحقيق المعاد

القصص العرفانية

سرح العيون

رشحات ملكوتية

لطائف الأعلام في إشارات أهل الإلهام

البرهان في تفسير القرآن

الإيقاظ من الهجعة في البرهان علي الرجعة

منهجية الثورة الإسلامية

التحقق الوجودي

تاريخ الكوفة

مقدمة ابن خلدون

مفاتيح الجنان

سجع الحمام

ص: 229

روضة الورد - كلستان سعدي الشيرازي

مقتطفات ولائية

الأنوار البهية في تواريخ الحجج الإلهية

ص: 230

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لَا یَعْلَمُونَ
الزمر: 9

عنوان المکتب المرکزي
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.